ستار كاووش
طالما سحرني مشهد حارس الجسر في هولندا وهو يَطلُّ من غرفة الحراسة الصغيرة المرتفعة، ممسكاً بيده حبلاً يتدلى للأسفل بإتجاه الماء ومربوط بنهايته قبقاب خشبي، ويجعله يقترب من السفن والمراكب التي تكون أعلى من إرتفاع الجسر، فيضع البحارة والصيادين قطعة نقدية في ذلك القبقاب، ثم يسحب الحارس الحبل ويأخذ النقود، ثم يرفع لهم ذراع الجسر المتحرك كي يمر المركب.
مشهد يعيدني لهولندا القديمة وأراضيها الواطئة وثقافتها التي غلب عليها الماء والبحارة الشجعان والجسور والقناطر التي تجاوز عددها عشرات الآلاف في هذا البلد. وحكايتي اليوم عن هذا القبقاب الخشبي الذي يعتبر جزء لا يتجزء من ثقافة الهولنديين الذين قاموا بصناعته وإستعماله منذ مئات السنين، ليساعدَ الفلاحين في المضي بعملهم في هذه الأرض الخصبة التي تقع تحت مستوى سطح البحر. ومازال هذا القبقاب حاضراً بين الناس وخاصة في المقاطعات الشمالية، حيث يحتذيه الكثيرون الذين تراهم أمامك في السوبرماركت أو يمرون بمحاذاتك بدراجاتهم الهوائية وهم يلبسون هذه الأحذية الضخمة التي يبدون معها وكأنهم قد خرجوا تواً من فيلم للرسوم المتحركة. أشكال وأنواع وألوان لا حصر لها، لهذه القباقيب الشهيرة التي أصبحت إحدى علامات هولندا التي يعرفها القاصي والداني، ولا توجد مفردة أخرى أكثر شعبية منها، لأنها تداهمك في كل مكان تقريباً، وليس هناك أجمل من أن تجربها ولو مرة واحدة، حتى تشعر وأنت تضع قدمك فيها وكـأنك واحداً من المزارعين الذين رسمهم فنسنت فان خوخ في لوحاته الخالدة. وبالنسبة لي شخصياً، لم يكفيني رؤيتها ولا إستعمالها والمشي بها، فأنا أنظر اليها بشكل آخر تماماً، إنها قطعة فنية إنعجنت بتربة هذه الأرض الخضراء وإختلطت بثقافتها ورذاذ ماء بحر الشمال الذي يحيط بكل شيء هنا، هذه القباقيب هي جزء مهم من فلكلور وتاريخ هولندا، وهي التي أعانت رعاة أبقار الحليب وزارعي الورد في إعلاء شأن هذه الأرض الجميلة. وقد دخل القبقاب الخشبي في الأعمال الفنية واللوحات التي تشير الى طبيعة وثقافة هولندا، وبنيت الورشات التي تنتجه، كذلك وضعت صوره على طوابع البريد ويستعمله الهولنديون في العشرات من الأمثال الشعبية، كقولهم حول فتاة معينة (حان وقت ذهابها الى سوق القباقيب) وهو يعني أن الفتاة وصلت لعمر الثلاثين ولم تتزوج بعد.
إتسعت شهرة القبقاب الهولندي في كل العالم، وبات مفردة يحبها السائحين الذين يزورون بلاد ريمبرانت، وأُلِّفَتْ لها الأغاني والموسيقى كما فعل الموسيقي وعازف الكمان الهولندي الشهير أندريه ريو وألف قطعة موسيقية مذهلة أسماها رقصة القباقيب، وقد إستلهم أجوائها من رقصات الفلاحين أثناء الأعياد، هؤلاء الذين تشعر وكأنهم قد خرجوا تواً من لوحة بيتر برويغل (رقصة الفلاحين) حيث تصدح أصوات قباقيبهم على الأرض وهم يتأبطون بعضهم بكثير من الدعابة والمرح والسعادة.
وللأهمية الجمالية والتاريخية لهذه القباقيب، فقد تأسس في هولندا منذ سنوات طويلة متحف جميل وطريف، أطلق عليه إسم (متحف القباقيب الخشبية) ويقع في منطقة إيلده الريفية التي تبعد عن مرسمي نصف ساعة بالسيارة، ويضم كل أنواع وأشكال هذا الحذاء الخشبي، ومعلومات عن تاريخة وإستعماله وطريقة صناعته، كذلك المعدات التي تدخل في هذه الصناعة. زرتُ هذا المتحف الذي يحتوي على ألفين وثمانمائة حذاء خشبي، إرتقت لأن تكون أعمالاً فنية حقيقية صُنِعَتْ باليد. تنقلتُ بين هذه القباقيب غريبة الأشكال التي أنتجتها هولندا عبر تاريخها والتي تعتبر أساس المتحف، إضافة الـى قباقيب أخرى جمعت من أربعة وأربعين بلد. ثم هناك المعدات اليدوية القديمة التي كانت تُحَوِّلُ قطعة عادية من الخشب الى تحفة مذهلة. يبدأ المتحف بعرض فيلم قصير حول صناعة هذه الأحذية واختيار الخشب المناسب والتفاصيل التي يقوم بها حرفيون ماهرون، وهكذا ترى المراحل والخطوات التي تبدأ بالشجرة وتنتهي بالفلاح الذي يمضي الى مزرعته بحذائه الخشبي. هنا في هذا المكان إطلعتُ ورأيت أنواعاً مذهلة وتفاصيل لا تخطر على بال أحد، وتحسستُ مفردات كثيرة أخرى تتعلق بتاريخ وصناعة وإستعمال هذه الأحذية الخشبية النادرة.
وأطرف ما إستوقفني في متحف القباقيب، حذاء خشبي غريب الشكل يكون كعبه في الجهة الأمامية، عكس ما هو متعارف عليه حيث يكون الكعب عادة في الجهة الخلفية للحذاء، فكرتُ به طويلاً، واقتربت منه لأعرف سبب جعله بهذا الشكل الذي يبدو معكوساً. وأنا على هذا الحال، إقتربت مني إمرأة تعمل في المتحف وهي تبتسم. وحين سألتها إن كان هناك سبب وراء جعل الحذاء بهذا الشكل المعكوس، قالت ضاحكة (هذا النوع من الأحذية الخشبية كان يستعمله اللصوص في القرن الثامن عشر، لأنهم حين يفرون بالمسروقات ويحاول أحد ما أن يَتَتَبَّعَ آثار أحذيتهم، تبدو آثارهم على الأرض بشكل معكوس وكأنها لشخص قادم وليس ذاهب، وبهذه الطريقة الذكية ينجون من المتابعة.