لطفية الدليمي
ذهبت السكرة وجاء وقت العمل الذي يسابق الزمن لاقتناص فرصة لاتجود بها إمبراطورية نوبل الأدبية إلا مرّة كل عام ؛ إذ لاتكاد تمرّ سويعات على إعلان اسم الملك المطوّب على رأس مملكة الأدب حتى يسارع المستفيدون في ترتيب أجندتهم القادمة : طبعات جديدة من أعمال قديمة للفائز نُشِرت ببضعة آلاف من النسخ وهاهي جاهزة للنشر بالملايين . إنه موسم ( بزنس ) في نهاية المطاف ، ولاضير في هذا أبداً طالما اعتمد معايير النزاهة .
عرفتُ اسم الفائز النوبلي بجائزة الأدب 2021 ، عبد الرزاق قرنح ( أو غورناه أو قرنة أو جرنة أو سواها ماشئت من الأشكال ) ، قبل نحوٍ من سبع سنوات عندما كنتُ أشتغلُ على ترجمة كتاب ( مقدّمة كامبردج في الآداب مابعد الكولونيالية ) . توقفتُ كثيراً عند إسمين ( هما Abdulrazak Gurnah و Aijaz Ahmed وردا في الفصل الأخير المسمّى ( أطفال العالم ) ضمن أسماء كثيرة يعرفها المتمرسون في حقل الدراسات الاستشراقية ومابعد الكولونيالية ، وجُلّهُم من التلاميذ الخلّص لإدوارد سعيد حتى لو إختلفوا معه لاحقاً . قضيتُ أوقاتاً ليست بالقليلة في معرفة الجذر الاشتقاقي ( الإثنولوجي ) لكلا الإسميْن السابقين ، كما قرأت مواد تختص بكلّ منهما وبالطريقة ذاتها التي فعلتها – وأفعلها – مع كل اسمٍ جديد يُعْرَضُ لي في سياق ترجمة كتاب أو مقالة أو حوار .
أثارت فيّ مسألة فوز عبد الرزاق قرنح جملة من الموضوعات الإشكالية سأتناولها في سياق سريع :
أولاً : ليس الجهل بِـ ( عبد الرزاق قرنح ) قبل فوزه بنوبل الأدب مثلبة أو دالة على جهلنا المفترض وبخاصة لدى عموم القراء . لماذا نريدُ من قارئنا العربي أن يكون غولاً معرفياً يحيطُ بكلّ الأسماء الأدبية أو الثقافية العالمية وبخاصة أنّ دور النشر العربية لم تترجم له شيئاً من قبلُ ؟ هل يعرفُ كل القرّاء الغربيين نجيب محفوظ الذي حصل على نوبل الأدب قبل أكثر من ثلاثين سنة ؟ معرفة أسماء الأدباء والروائيين المعاصرين ليست إشارة إلى سعة الثقافة أو شرطاً لها . لم يسمع الكثير من القرّاء العرب مثلاً بالروائية الايرلندية ( سالي روني Sally Rooney ) التي حققت أعلى المبيعات خلال السنوات القليلة الأخيرة ، وهذا أمر بديهي لأنّ اعمالها لم تُتَرجم حتى اليوم ، وحتى لو تُرْجِمت فليس شرطاً أن يقرأها الجميع . هل القارئ العربي مطلوب منه أن يكون قارئاً حصرياً للرواية دون سواها من الألوان المعرفية ؟ وحتى لو كان قارئاً حصرياً للرواية فلن يواكب الأسماء الجديدة التي تطلّ علينا كل عام . أنا روائية ومُتابِعة وأحكي عن معرفة وثيقة في هذا الميدان . كفى ظلماً للقارئ العربي ، ولاتزيدوا أعباء الحياة القاسية على كاهله .
ثانياً : جرّب أن ترفع إسم ( عبد الرزاق قرنح ) من ديباجة الإعلان النوبلي الذي كرّس فوزه ، وضع بدلاً عنه ( نغوغي واثيونغو ، أو تشيماماندا نغوزي أديتشي ، أو بن أوكري ، أو تسي تسي دانغاريمبكا ـ أو جامايكا كينكايد « مع تحويرات مناطقية محسوبة « ، ،،، إلخ ) ولن يحصل كبير فرق في الديباجة . المسألة كيفية وانطباعية وعمومية إلى حد كبير .
ثالثاً : يؤكّد أباطرة نوبل الأدبية أنّ المعيار الأساسي في الجائزة هو الجدارة الأدبية Literary Merit . لن أقتنع يوماً – وأحسبُ كثيرين يشاركونني في قناعتي هذه – أنّ عبد الرزاق قرنح أعلى قيمة أدبية من مارغريت آتوود أو ميلان كونديرا . ربما سيقول هؤلاء الأباطرة أنهم يرون غير مانرى ، ولو فعلوا فأحسبهم سيكذبون . المقارنة غير واردة بأي مقياس من المقاييس . لو أنّ المعايير النوبلية حقيقية فربما سيكون الروائي والكاتب البنغالي ( ضياء حيدر رحمن ) الذي كتب روايته المبهرة ( في ضوء مانعرفه ) أكثر استحقاقاً لنوبل الأدب . تذكروا منذ اليوم هذا الاسم ( ضياء حيدر رحمن ) الذي قد يحوز الجائزة بعد عشرين أو ثلاثين سنة . تذكروه حتى لايتهمكم أحد بالجهالة حينها ! .
رابعاً : سيفرحُ البعض بأنّ عبد الرزاق قرنح ذو جذور عربية يمنية . هؤلاء شبيهون بالقرعاء التي تتباهى بشعر بنت عمها . دعونا من هذه المخادعات السايكولوجية . قرنح لايعرف الحديث والكتابة سوى باللغة الإنكليزية ( الكولونيالية !! ) مضافاً لها السواحلية ؛ فعلام تهلّلون ؟ حتى كبارُ الأدباء الأفارقة من المرشحين الدائمين على قوائم نوبل الأدب هم من أساتذة كبريات الجامعات الغربية ، ولهم باعٌ في حقل دراسات التعددية الثقافية ومابعد الكولونيالية . ربما سيكون مشهداً ديستوبياً كالحاً لانتمناه لأشقى الأشقياء أن نتخيل حال عبد الرزاق قرنح لو كان في اليمن يجاهد للحفاظ على حياته وسط الجحيم الانساني المروّع . هل كانت ستأتيه نوبل الأدب حينها ؟
خامساً : لو كان ثمة حَسَنَةٌ تعزى لنوبل الأدب 2021 فهي أنها ستساهمُ في إعلاء إسمٍ سيفيده المليون من الدولارات النوبلية – فضلاً عن المترتبات المالية لحقوق التوزيعات الجديدة من كتبه السابقة - في عيش حياة مسترخية من الناحية المالية . ماالذي كانت مارغريت آتوود – مثلاً – ستفعله بملايين إضافية ؟ لاأرى أنّ الشهرة والمال النوبليين كانا سيسعدانها وهي ترتشف قهوتها الصباحية في منزلها الكندي الفخم أو في منزلها اللندني المبني على طراز عمارة قصور القرن الثامن عشر .
سادساً : سيثير الكثيرون من أتباع اليسار الجديد ضجيجاً عن قيم العدالة والمساواة المطلوبة في معايير نوبل الأدب ، ويرى هؤلاء أن الجائزة غالت كثيراً في إعلاء شأن المراكز الثقافية على حساب الأطراف ، متناسين الأسماء العديدة الآسيوية والإفريقية التي فازت بنوبل الأدبية منذ عقود بعيدة . أقترحُ حلاً لهذه الإشكالية أن تعتمد نوبل الأدب ستراتيجية المحاصصة الثلاثية : أن تتوزّع الجائزة كلّ سنة على ثلاثة أسماء أدبية ، واحدة لكاتب ، وثانية لكاتبة ، وثالثة لكاتب أو كاتبة من الجغرافية الموصوفة بالهوامش الثقافية ( آسيا وأفريقيا والبحر الكاريبي وأمريكا الجنوبية حصرياً ) . لماذا ينفرد اسمٌ واحد كل سنة بهذه الجائزة بدلاً من اسمين أو ثلاثة مثلما يحصل مع نوبل الأدب أو الفيزياء أو الكيمياء أو حتى ( أحياناً ) السلام والإقتصاد ؟
سابعاً : معرفة الأدباء والروائيين ( وصُنّاع الثقافة العالمية بعامة ) عبر وسطاء لاتصلحُ أن تكون بديلاً عن المعرفة المباشرة . سنسمعُ كلاماً طويلاً عن السياسات الثقافية الجديدة والقيم العولمية وسياسات الهوية والمنفى والذاكرة ،،،، إلخ ، وسيرى كثيرون في فوز أسماء جديدة محسوبة على هذه الاشتغالات الثقافية تحولاً ثورياً في موقف لجنة نوبل الأدبية . نحنُ لانعرفُ حقاً مايحصلُ في الكواليس ، وليس من بديلٍ عن القراءة المباشرة ( أو الترجمات المتوقعة لاحقاً ) لكي نتيح لذائقتنا الأدبية وجهازنا الثقافي شيئاً من الاسترخاء وهو يحكمُ على مايقرأ . هذا أفضلُ كثيراً من التهليل لثياب ( أباطرة نوبل ) الجديدة ! .