لطفية الدليمي
كأنه كان يتحدث بصوت المبدعين الباحثين عن الدعة ومعنى الوجود في العملية الإبداعية وهو يحدد علاقته بالكتابة:«أنا لا أكتب كي أربح مالاً أو جوائز، وليس بدافع من غرور لأرى ما أكتبه مطبوعاً؛ لكنني كتبت مدافعاً عن وجودي، ومن هنا فإنّ كتبي ليست مشوِّقة، ولا أنصح أحداً بقراءتها».
كان يرى العالم قاسياً ويبعث على الحزن والألم؛ فالمبدع المسكون بنار الخلق يضيئه اللهب لكنه يلتهم روحه، يبحث في الكلمات عن الحنو والأفق الرحب والعزاء لكنه لايجد حوله سوى صراع معلن بين الناس وعالم الأفكار فينال منه اليأس؛ لكن بغتة وهو في المدرسة الثانوية يكتشف العالم الأفلاطوني المتسم بالدعة والكمال عندما شارك لأول مرة في البرهنة على نظرية في الرياضيات فغمرته النشوة.
نشأ لدى ساباتو الشاب نزوعٌ قاسٍ ومدمر نحو تغيير عالم القسوة والظلم الاجتماعي، وظنّ أنه بانضمامه إلى صفوف الحزب (الشيوعي) سيجد السبيل لتغيير ذلك الواقع؛ لكنه فُجِع عندما اكتشف أنّ الايديولوجيا التي آمن بها على مدى خمس سنوات تناقض مايعتمل في أعماقه من فلسفة وفكر رومانسي وجودي؛ فهرب من المؤتمر الشيوعي في بروكسل - وكان مقرراً أن يتجه بعده إلى موسكو - وانطلق نحو باريس ليقاسي الجوع والتشرد ويتهاوى إيمانه بكل شيء،هناك أعانه طلاب أرجنتينيون وآواه بوّابُ المدرسة الثانوية المنشق مثله، وكان يعطيه مايشتري به قدح قهوة بالحليب لسد غائلة الجوع،وعندما حاصره اليأس وفكّر بالانتحار إنتابه حنينٌ جارف للرياضيات فجازف بسرقة كتاب رياضيات من إحدى المكتبات وقرأه وهو يحتسي قهوته الدافئة فشعر بسحر الرياضيات الخالد يغمر روحه من جديد؛ فاتّخذ قراره بالعودة إلى بلاده ليحصل على الدكتوراه في الرياضيات؛ ولكن، بعد نيلها وحصوله على منحة للعمل كعالم فيزياء في مختبر مدام كوري بباريس إلتقى بعلماء ذرة ظنّ أنهم - دون أن يدروا - شاركوا باطلاق الجحيم الذري؛ فلاذ بالسريالية والتقى اندريه بريتون وعصبة السرياليين الذين كانت حركتهم تتصدع في 1938, وكان حينها محتدماً بالشكوك حول العلم وانتابته أزمة روحية حادة أدرك خلالها أنّ العلوم التي انبثقت من شيء عظيم - كالرياضيات النقية - أطلقت أشدّ أزمات الانسان وجنونه التقني، وأنها مسؤولة عن تنامي نزعة تجريد الانسان من انسانيته وتحريمها التفكير السحري وتمسكها بالتفكير المنطقي حسب.
سحره الحلم السريالي والتخييل الأدبي الذي يضع مصير الانسان في مقدمة أولوياته؛ فهجر تخصصه العلمي للأبد وتفرغ للأدب وحده منذ 1945؛ لكنه هاجم السريالية لاحقاً لمزجها المتناقض بين الفكر الجدلي والحلم. تفسّرُ زوجته هجرانه للعلم بقولها: لقد قيّدَتْه العلوم على نحو مروّع فكان من المنطقي أن يبحث عن المنفذ الوحيد الذي سيساعده للتعبير عن عذابات البشرية والبوح بما يعانيه من شكوك حول العلم والحياة. ذلك المنفذ هو: الرواية.
نشر ساباتو بعد عامين من انتهاء الحرب العالمية الثانية أولى رواياته (النفق)، ثم كتب أعمالاً كثيرة بعدها، وقد وصف ساباتو نفسه بأنه (مفتون بالنار كالأطفال)، وكان مؤمناً بأنّ المبدع الخلاق كائن يهدم ويدمر ليقيم عالماً بديلاً، ولم ينشر طوال عمره الذي امتد قرناً من الزمان سوى ثلاث روايات وبضعة كتب فكرية وفلسفية أخرى، ولطالما آمن أنّ رواية واحدة تكفي إذا استطاعت الصمود في الزمان كرواية (دون كيخوته) لسرفانتس؛ ثم أقدم على حرق الكثير من مخطوطات رواياته وغيرها؛ لكن روايته المهمة (أبطال وقبور) نجت من النار بفضل احتفاء أصدقائه بها لتظهر عام 1962، ولتصدر روايته الثالثة (مَلاكُ الجحيم) في أواخر الستينات وينال عنها وساماً فرنسياً رفيعاً .