حيدر المحسن
اشترك في تأليف هذا الكتاب أربعة: الشاعر، والرسّام إسماعيل خيّاط، والناشر سامي أحمد صاحب دار التكوين، مع أدونيس.
كتب أدونيس تقْدمةً أولى للكتاب ضاعت بين أوراقه عندما غادر بيروت، ومقدمة أخرى أنجزها في باريس، ثم أصبح في الكتابة الثّالثة بالصّورة المنشورة هنا. إنه تقديم بالثّلاثة...
عنوان الديوان مرّ هو الآخر بطريق مشابه:
اسمه الأول: حجرٌ يا أيها الحجر...
والثاني: ريشةٌ من حجر
ثم صار أخيرا: إلهٌ حجر
هو عنوانٌ بالثلاثة...
أنشر هنا تعريف أدونيس الكامل بالكتاب:
تنسّموا هواءَ الحجر
-1-
تُرى لو أُعطِيَ الحجرُ، اليوم، فجأةً، القدرةَ على الكلام، فهل سيكون لديه ما يقوله لنا، نحن الذين لا نتوقف عن تحويل اللغة إلى حجارةٍ لرَجمِ بعضنا بعضا؟ وماذا سيقولُ لبشرٍ يرجمونه ويُرجمونَ به كلّ يوم؟
-2-
وراء صمتِ الحجرِ كينونةٌ، هي بين الأغنى تنوّعاً وتعدّداً في أنواعِ الموجوداتِ كلّها على هذه الأرض.
لكن، هل الحجرُ صامتٌ في "قلبِه"، كما هو صامتٌ في "لِسانِه"؟
-3-
لا يُخطئُ الحجرُ. وإذا كان لا يُحبُّ، فهو النقيضُ الكاملُ للكراهية.
-4-
يتعدّدُ الحجرُ دون أن يفقدَ وحدتَهُ. ويتنوّعُ ويتغايرُ دون أن يفقدَ هويّته.
يمكن أن يكون بيتا وأن يكون كهفا،
يمكن أن يكونَ معبداً وهيكلا وقبّةً، وأن يكونَ سجنا.
يمكن أن يكونَ درجاً إلى الذُّروةِ، أو إلى الهاوية.
يمكن أن يكونَ جِسرا.
يمكن أن يكونَ فنّاً: تمثالا – امرأةً، أو رجلا.
يمكن أن يكون رمزا سماويّا.
يمكن أن يكون حبراً- لونا، وألوانه الكثيرةُ الجامدة،
قلّما تُضاهيها ألوانُ النّباتات السّائلة.
-5-
يختزنُ الحَجَرُ أسراراً تتيحُ لهُ أن يكونَ مركزا للقداسة، يجسّدها في درجاته العليا، بحيث يصبحُ هو نفسهُ مقدّساً.
"الحجرُ الأسودُ"، إسلاميّاً، نموذجٌ ساطعٌ.
-6-
الحجرُ كتابٌ –
في كلماتٍ، في نقوشٍ، في رسوم،
في رقائمَ وألواحٍ، في شرائعَ وتعاليمَ.
ولا تتناهى صفاتُهُ عندما تحاولُ الكلماتُ أن تحيط به في بعض تحوّلاته – نقشاً، ورسماً، ونحتاً.
-7-
للحجرِ قرابةٌ مع أبهى أشياء العالم: النّجومُ والشّهبُ، والمعادنُ الكريمةُ.
"الحَجَران": هما الفضّةُ والذّهبُ.
و"أحجارُ الخيل" هي الخيولُ التي تُتّخذُ للنّسل.
والماسُ واللّؤلؤ والياقوت والجاد والعقيق تنتمي إليه.
وله طواعيةُ التّحوّل إلى غبار يتناسخُ في أشكال وصور بلا نهاية.
وله أصدقاء وبنون، وإخوة وأخوات، في الغابات ومجاري المياه، وفي أعماق البحار وأعالي الجبال،
وحيثما تلامسُ الشّمسُ جسدَ الأرض.
-8-
وللحجر صداقةُ عُشرةٍ وسكنٍ مع العمارة- هندسةً وعملاً. العاملُ، صديقُهُ الأكثرُ قُرباً في تهيئته على نحوٍ أنيقٍ وجذّاب، لكي يعانقَ صديقَهُ الآخر.
ويسمّي العمّالُ الذين يُعالجونَ الحجرَ عملهم بعبارة جميلة جدّاً هي "قَدُّ الحجر"، ويعنونَ تشذيبه ونحته تيمّنا بالخالق الذي خلقَ قَدَّ الإنسان.
بعدَ قدّهِ، تُضبطُ أضلاعه، وهذا ما يسمّيه أهلُ الصّنعةِ "تربيعاً": تُرسمُ الخطوطُ المستقيمةُ، يُضبَطُ التّعامُد، ثم تُزالُ الأطرافُ الزائدة.
بعد ذلك يُنحَتُ وجهُه الخارجيّ، ثم يُنَعّمُ حتى يصبحَ أملسَ، أو قد يُسْلِمُ وجهَه لمَلْمَسٍ خشنٍ ونتوءاتٍ كما تقتضي منه الغايةُ من التّجَلّي، أو بحسب استخدامهِ في الزّخارف أو النّقوش أو القناطِر.
ثم يبدو في هذا كلّه، كأن الحجرَ وَحدةٌ لَونيّةٌ في الرسم الهندسيّ الذي هو المبنى.
-9-
الحجرُ مفرَداً،
غابةُ أشكالٍ وألوانٍ.
-10-
حاء حيدر/ حاء الحجر،-
اعترفُ أنني فوجئتُ بهذا اللّقاء بين كيمياء البصيرة وفيزياء الشّيء، داخل حرف الحاء في ثباته وتحوّله. وزاد هذه المفاجأة غرابة وغبطة أنها جاءت محضونة بعفو الشّعر وأن الحجر كان سكنا لآفاقه وأنّ رسّاما ابتكر هندسة خاصّة لهذا السّكن. قلت في نفسي سأحاول، لمزيد من المعرفة، أن أسأل ابن عربي عن فيزياء الحروف وكيميائها، وسوف أنقل هذه المعرفة إلى حيدر وإسماعيل وإلى الأحبّة جميعا أولئك الذين يهيمون في تلك الأودية الغامضة المشعّة، والتي تتفرّد بها أرض الشّعر.
-11-
اقرَأوا الأجسامَ الحجريّة المضيئة التي يحتَضِنُها هذا الكتاب،
تَنَسّموا هواءَ الحجر.