طالب عبد العزيز
لا أدري ما إذا كنّا وبعد ازمنة من القراءة والمعرفة وامتهان القول والكتابة سنكون بحاجة الى تعريف جديد للكلمة؟ وماذا يعني أنْ يطالب أحدنا بقول كلمة، في مناسبة ما، وأمام جمع من الناس، لكنني، أعرف بأنَّ الانسان هو الكلمة. وقديما قالوا: المرءُ كلمة. أو قولة سقراط لأحدهم: تكلم كي أراك. وهناك، العشرات من الاقوال التي لا تفصل بين الشخص وكلمته، وبيننا الكثير ممن إختبأوا خلف ألسنتهم، فصانوا انفسهم، وبيننا من أفصحوا، فأطلعونا على جيف بواطنهم، ولو ظلَّ بعضهم صامتا لكان أسلم له.
كل كلمة ستقع في مكانها الذي استهدفته، وسواء، أبدأ الحفل بها أو جعلها منظموه في الاخير. كان الكاتب محمد خضير آخر المتحدثين في افتتاح معرض البصرة الدولي للكتاب(20-30) من تشرين أول الجاري، لكنَّ الآذان ظلت تردد كلمته، وشخص الحاضرون بابصارهم نحوه، فقد كانت بالغة الاثر، لذا، سيطول الحديث عنها، وسيدوم دويها طويلاً في أروقة المعرض، لما فيها من الصدق والجرأة، فيما لفظت الاسماع بعض الكلمات هناك، وتفحّمت وجوه قائليها، باعين الحاضرين، لأنها كانت متسولة، فارغة ، إن لم تكن قد كشفت عن بواطن أصحابها في الملق والتزلف وسوء المنقلب.
لم يبدأ محمد خضير أحداً من مسؤولي المدينة بالتحية والثناء، وما خلع على كبيرهم صفة رسمية أو قبلية ما، بل كان واضحاً في امتعاضه، وكان محذراً ومنذراً الحياة والثقافة بقوله:( .. فيما تطرق الكتل التي حشرت صناديقها بانواع التنبؤات المخيفة ابوابنا) أو قوله( ستبحث الكتل المتليفة عن طراوة الدار وملاذها الامين .. وقد تكون الاخيرة كما يتنبا خريفنا المؤرّج بالروائح ..) ونقرأ في ثنايا السطور رسالة واضحة وبليغة، على خلاف الذين تقدموه في الحديث، الذين كالوا المديح لهذا وذاك، فيما تعيش الثقافة على يد الممدوحين أسوأ أيامها، ويتعرض المثقف الى الامتهان في العيش، والملاحقة في القول، وسط صمت الادارات السياسية، وبعض الادارات الثقافية، إن لم تكن قد وقفت بالضد من طموحات وتطلعات الثقافة وأصحابها.
تعلّمنا دروس الصحافة بأنَّ الكلمة إذا خرجت عن مدارها لن تعود اليه، وما نقوله ونكتبه سيبقى في مدار كوني أبد الآبدين، وفي حصيلتنا الانسانية آلاف الكلمات، التي قيلت منذ آلاف السنين، وظلت تجدد مداراتها، خالدة بمعانيها تلك، التي قيلت فيها أول مرة، وهناك من رفعته كلماته، وهناك من أذلته، فذهب هذا الى دائرة الألق، وذهب غيره الى دائرة السوء، وتنعم بمكوثه الطويل بيننا، طاهراً عفيفاً من قال بالحسنى، فيما هبط غيره المدارك السحيقة، وتجلبب سرابيل الذل والمهانة.
كان علي بن ابي طالب قد شُتِمَ على منابر الامويين سنوات طويلة، لكنه ظل مشعّاً، تتشرف الالسن بذكره، وقال خطباء السوء ما قالوا بمعاوية ويزيد وسواهما، لكنهم ظلوا حديث الظلم والخديعة، وأمثولة الخسَّة والغدر. فالله، الله في الكلمة، وطوبى لمن قال كلمة الصدق، وتجنب وسائل الدفاع عن ذويه بشتيمة غيرهم.