TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: تابل اللحم

كلامٌ عاديٌّ جداً: تابل اللحم

نشر في: 2 نوفمبر, 2021: 11:12 م

 حيدر المحسن

أحسن ما يقال عن الوصف في الفن القصصي هو أنه الخطّ الفاصل بين الحكاية والقصة، أو بين الأدب الرديء والجيد، بواسطته يتحول العمل بالكلمات إلى فن مرئي. سألوا بلزاك لماذا أنت مغرم بوصف المكان إلى الآخر، لو دخل أحدٌ غرفة وخرج منها بعد ثوان فإنك تصف أثاث الغرفة كله؟ أجاب: لأن الإنسان حيوان يحبّ الأثاث.

ليس من قصة لا يمكن أن تكون حقيقية ما دام هناك شخص واحد يصدّقها، وهكذا فإن أهمّ ما يكابده الكاتب هو أن يكون مقنعاً للقارئ في ما يقوله، حتى لو كتب قصصاً من الخيال العلمي أو كان يتناول الأساطير أو الفانطازيا...

يقرأ البعض القصة لأجل التعرف على أفكار كاتبها، أو على سيرة أحداثها. بالنسبة إليّ، يزداد شغفي بالقراءة طالما زخر قلم المؤلف بالوصف، بشرط أن يكون هناك شيء مبهج للمخيلة في عمله، كل جملة في القصة يجب أن تشابه لقطة سينمائية زاخرة بالمنبّهات البصرية ذات الحركة المتواصلة، وحتى الفراغ الموجود بين المقاطع، فيه ما يشبه الرهبة، ويحتاج هذا الفعل إلى محفزات حسية ومجسات تتوزع في جسد الإنسان كلّه تستقبل هذه الحوافز، ومثلما يحصل في دنيا الشعر، لا دور مهمّ للعقل عند إنجاز المهمّة، والقول الفصل يعود في الأخير إلى العاطفة، عندما تتعالق أعضاء الحسّ بعضها ببعض على نحو يجعل كل شيء يمرّ في فن الوصف عبر الدم، وليس عبر الرأس، وهكذا تكون تشبيهات الكاتب مصنوعة كأنما من قبل الطبيعة ولا دخل للكاتب في صياغتها.

يقوم التأليف الأدبيّ في الأول والأخير على مبدإ الذوق السليم، بواسطته تتحوّل الحياة إلى ميدان فنّي -حسب رأي شيشرون- ولا يقع في باب الأدب الصفات الغريبة أو بعيدة الإتيان. في “البومة العمياء” نرى صادق هدايت معجبا بهذا التشبيه حتى أنه يكرره مرتين في الرواية: “وجنتاي حمراوان وبلون اللحم المعلق بباب الدكان”. ويشتمل الوصف في فن القصّ على رسم الشّخصيات والكائنات والموجودات والمحيط، وكذلك المشاعر والأحاسيس والهواجس والأفكار، وكلّما كانت الصورة المرسومة حيّة كلما ارتفع الصدق الفنّي واقترب القاصّ من نقل تجربته كاملة إلى القارئ، وتقترن عندها لغة القصّ بالتّجربة والتّجربة باللّغة. إن شيئا ما في الروح تصيبه الرّهبة حين نقرأ في ملحمة كلكامش هذا النعت: «الأفعى أسد التّراب». ترتفع لغة الكاتب إذن عندما يجيد فنّ الوصف إلى مستوى أعلى، وتهبط كثيرا إذا فشل في اختيار الملائم من الاستعارات، ويتطلّب هذا نوعا من هندسة الكلام وتجسيمه بواسطة الرسم والنحت والبناء، والغرض منه وصف الواقع عن طريق اكتشافه، أي أنه ليس حلية لغوية غرضها تألق الأسلوب من أجل اجتذاب القارئ وإبهاجه.

شبّه أرسطو الوصف ب”تابل اللحم” (الخطابة، الكتاب الثالث)، وقال عنه كذلك بأنه «الشيء الوحيد الذي لا يتعلّمه المرء عن غيره، وهو الدليل الوحيد على المقدرة العظيمة الطبيعية” (فن الشعر، الفصل الثاني والعشرون). ومثل أهمية الاستعارة في لغة الشعر، كذلك هي الصورة الوصفية في النثر، حتى أنه بإمكاننا تحوير عبارة الشاعر الأمريكي والاس ستيفنس: “على أرض الاستعارة فقط، يصبح المرء شاعرا” إلى “على أرض الوصف فقط، يكون المرء قاصّاً”. لغة الوصف إذن هي الجسد الذي يحمل على كاهله بناء القصّة المتين والقوي، ويمكنها أن تهبط بالتفاصيل -مهما كان نوعها- أو ترتفع بها إلى أعلى الذّرى. تقول الكاتبة الأمريكية فلانري أوكونور: على القاصّ أن يفهم أن الشفقة لا تنتج الشفقة، ولا العاطفة عن العاطفة ولا الفكرة عن الفكرة، بل لا بدّ من إعطائها جسدا”. الوصف إذن هو جسد القصة غير البائن للعيان، في غيابه يغدو النصّ ضبابا محضا...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram