د.قاسم حسين صالح
كنت قضيت ربع قرن في تدريس مادة (الشخصية) فوجدت ان النظريات التي تؤكد على ثبات سلوك الفرد واتساقه عبر الزمن وعبر المواقف (يعني الشجاع يبقى شجاعا طول حياته) لا تنطبق عليها،وان هذه النظريات التي ما تزال معتمدة بالمناهج الجامعية تجاهلت تأثير السياسة (السلطة،النظام) في تشكيل الشخصية.ولقد مكنتنا متابعتنا لتحولات الشخصية العراقية من تقديم اضافة معرفية عراقية لعلم نفس الشخصية نصوغها بما يشبه النظرية كالآتي:
(ان الشخصية تتغير عبر الزمن وعبر المواقف وان للنظام السياسي الدور الرئيس في هذا التغيير).
سنقارن هنا سلوك الشخصية العراقية عبر نصف قرن من الزمن الممتد بين نظامين: الدكتاتوري(35سنة) والديمقراطي(18سنة)..آخذين بالاعتبار أن ما نشخّصه فيها لا يستوفي صيغة التعميم ولا يشمل كل المواقف،انما الغالبية من العراقيين والشائع المؤثر من المواقف.
الشخصية العراقية زمن النظام الدكتاتوري
احدث النظام الدكتاتوري تحولات اجتماعية في اربعة مواقف سلوكية باربعة انواع بارزة من الشخصية العراقية،هي:
1.الشخصية السادية
2.الشخصية الماسوشية
3.الشخصية المقهورة
4.الشخصية المتمردة(الثورية)
بعيدا عن أصل السادية والمازوشية وعلاقتهما بالسلوك الجنسي،فان المقصود بهما هنا وجود شخصين(كيانين،جماعتين..) احدهما يمارس القوة والآخر مستسلم لها.ومن خصائص السادية أن صاحبها يعمد إلى ذمّ الآخرين وازدرائهم والتقاط عيوبهم وتحقيرهم والبحث عن أخطائهم وتضخيمها من أجل معاقبتهم بشدّة،وتسيطر عليه دوافع تدفعه قسرا إلى تدمير سعادة الآخرين وتبديد آمالهم.
والحق،ان صدام حسين ما كان أول حاكم سادي في العراق،فالسلطة فيه مارست عبر أكثر من ألف سنة مختلف الأساليب التي تجعل الناس ينظرون إلى “ الخضوع “ بوصفه حقا لها وواجبا عليهم،ويتقبلون آلامهم ولا يشكونها حتى لأنفسهم،ليتحقق من خلالها (معادل نفسي) طرفاه “السادية “ و”المازوشية “ يمنح السلطة الشعور بالاطمئنان على ديمومتها.
ولقد بدأ تدجين العراقيين على السلوك المازوشي في سبعينيات القرن الماضي،آخذا شكل الترغيب والترهيب للانتماء إلى حزب البعث،ثم الإجبار على الالتحاق بالجيش الشعبي بمن فيهم اساتذة الجامعات،وعسكرة الناس الذي يعد من أعلى الممارسات في (معادل) السادي – المازوشي بين السلطة ورعاياها،والمبالغة في أساليب إذلال الناس وتحقيرهم،أقساها..أخذ ثمن الطلقات من أهل المعدوم الذي تم بها قتله،وعدم السماح بإقامة مجالس العزاء للذين تعدمهم السلطة،والإعدام في الساحات العامة للهاربين من الجيش..فضلا عن انه خلق حالة من الخوف والرعب الجمعي والرقابة الأمنية المؤسسية والحزبية،ليوصل الفرد العراقي إلى أقصى حالات اليأس المتمثلة بتوليد يقين لديه بأن تقرير مصيره بيد السلطة وحدها التي لم تستطع أن تطيح بها ثلاثة حروب كبيرة وحصار شامل لثلاثة عشر عاما. حتى “ البطاقة التموينية “ كان لها دور سيكولوجي في إشاعة المزاج المازوشي بتوليد وتقوية الشعور لدى المواطن بأن الدولة هي التي تطعمه وهي خيمته التي يستظل بها،وأن عليه أن يخضع لها حتى لو كانت ظالمة.
والمفارقة انه نجم عن المبالغة في ممارسة السادية من قبل السلطة،مبالغة في ممارسة المازوشية بين الناس،وكبت ملأ الحوصلة،وحقد يغلي من الداخل ينتظر لحظة الانفجار ليشفي غليله في انتقام بشع..وقد حصل!..من قبل الشخصية المتمردة (الثورية) التي اوجدها ذلك النظام بين أفراد الأسر المنكوبة بضحاياها بشكل خاص.فلقد شهدت بأم عيني كيف وضعوا اطارات السيارت حول رقاب بعثيين وأحرقوهم وهم احياء.واذا كان هذا على صعيد جماهير دفعها الشعور باخذ الثأر بهذه الطريقة البشعة،فأن النخبة السياسية والمثقفة من هذه الشخصية اصدرت قانونا اسمه (الاجتثاث)..الذي يعني القلع من الجذور،والمشحون بانتقام جسدي ونفسي واقتصادي واجتماعي بشع.
ولقد أنتج النظام الدكتاتوري أشد انواع الشخصية سلبية هي (الشخصية المقهورة).وفي كتابه الممتع لعالم النفس اللبناني مصطفى حجازي يصف الانسان المقهور بانه المسحوق امام القوة التي يفرضها الحاكم المستبد فلا يجد من مكانة له في علاقة التسلط العنفي هذه سوى الرضوخ والتبعية والوقوع في الدونية كقدر مفروض..ومن هنا شيوع تصرفات التزلف والاستزلام والمبالغة في تعظيم السيد اتقاء لشرّه او طمعا في رضاه.ويضيف حجازي ان ما ينجم عن هذه العلاقة هو تغذية نرجسية السيد لمزيد من تضخيم اناه وجعل الانسان المقهور تابعا له واداة في خدمته..اذ لا اعتراف الا بأنا السيد،لا حياة الا له،لا حق الا حقه..وينتهي الامر بالانسان المقهور الى الاستكانة والاستسلام والتبخيس اوالحط من قيمته كانسان يعاني كل انواع الحرمان..لكنه ما ان يجد السيد قد ضعفت سطوته او فقد هيبته او اطيح به،فان ما كان مكبوتا بداخله ينفجركالبركان..فيدفعه انفعاله الى الانتقام من كل ما يحسبه انه للسلطان.
وكان ان نجم عن ذلك انتهاك الملكيتين العامة والشخصية.فبعد هزيمة جيش النظام بغزو الكويت(1991)،وسقوط السلطة في اغلب المحافظات العراقية،وجهّت ضربة جديدة للمنظومة القيمية في المجتمع استهدفت الملكية العامة المتمثلة بمؤسسات الدولة،تبعها حصار نجم عنه انتهاك قيمة احترام الملكية الشخصية، اذ شاع في تسعينيات القرن الماضي حالات السرقة بشكل عام،وسرقة السيارات المصحوبة بالقتل. وكنت اجريت وقتها دراستين،التقيت في الأولى بعدد من مرتكبي جرائم السرقة بسجن ابو غريب،وتحاورت معهم في جلسة(ديوان) عن الاسباب التي تدعوهم للسرقة،فاجابوا انها العوز والفقر وعدم وجود مصدرعيش لهم ولعوائلهم.وحين سألتهم: ماذا لو اطلق سراحكم الآن؟ أجاب خمسة منهم انهم سيسرقون اول سيارة يرونها في الشارع!. اما الدراسة الثانية فقد اجريت على عصابة من ستة اشخاص قامت اواسط التسعينيات بسرقة سيارات (سوبر ياباني تحديدا) وقتل اصحابها.وكان زعيمها في الثامنة والعشرين قتل ستة اشخاص واخذ سياراتهم. وحين سالته: لو انهم البسوك البدلة الحمراء واقتادوك فجرا الى الاعدام فعلى ماذا ستندم؟،اجابني: اندم لأنني لم اقتل اكثر!..ما يعني ان استسهال(قدسية الحياة)كانت أبشع تحول اجتماعي حصل للعراقيين.
وباستثناء الشخصية العراقية السليمة التي ظلت متماسكة في منظومتها القيمية،فان معظم الشخصيات التي استلمت السلطة(سلّمت لها من المحتل- المحرر) هي من الشخصيات التي تعاني الشعور بالقهر والظلم والحيف والجور،وجدت الفرصة لتنطلق منها الشرور..ضد المستبد واجهزته القمعية واتباعه اولا..ثم ضد الأخوة الذين حولّهم صراعهم على السلطة والثروة الى اعداء.وكان ان حدثت تحولات كبيرة في الشخصية العراقية بالزمن الديمقراطي تثبت صحة نظريتنا ان سلوك الشخصية ليس ثابتا ومستقرا عبر الزمن والمواقف،وان نوع النظام السياسي له الدور الرئيس في هذا التغيير.