لطفية الدليمي
كم كان أفلاطون عبقرياً رائياً عندما تحدّث عن كهف يعيشُ فيه الناسُ معظم حياتهم ، وربما كلها . ليس الكهف الأفلاطوني تخريجة فلسفية أراد أفلاطون من ورائها الكشف عن الأوهام التي تَحُولُ بيننا وحقيقة الواقع الذي نعيشه. قد تكون إستعارة تصويرية حاذقة ؛ لكنها أكبر من ذلك، وماهو أهمّ أنها مثالٌ ممتد عبر الزمان والمكان .
كلٌّ منّا يعيشُ داخل كهفه الأفلاطوني ، وليس سوى جهودنا الذاتية المنقادة برؤية نزيهة مايستطيعُ إنقاذنا من أوهام هذا الكهف . أوهامُ هذا الكهف صنفان : داخلية يرى فيها المرء نفسه وقدراته مضخّمة بمقادير على غير حقيقتها، والثانية خارجية تختصُّ بإختلالات خطيرة في رؤية المرء لما يحصل خارج نطاق الكهف .
لو شاء بعضنا العيش طيلة عمره داخل كهفه فَلَهُ ذلك . هذا شأنه الخاص . لامشكلة في ذلك ؛ لكنها معضلة كبرى عندما يكون ( حبيس الكهف ) هذا ممسكاً بمفصل حيوي من مفاصل العمل الوظيفي العام . ماذا لو كان هذا الشخص مشتغلا بالشأن الثقافي ؟ قد يتصوّرُ بعضنا إستحالة هذه الحالة؛ لكننا سنكون عميان بصيرةٍ ونظر لو شئنا تجاهل هذه الحقيقة . يكتبُ بعضُ هؤلاء أطروحاتٍ تنمُّ عن نرجسية متضخّمة ودورانٍ في فلك الذات بطريقة لايمكن غضّ الطرف عنها أو تجاهل مضامينها الخاوية . يمسكُ بطرف موضوعة ، ثمّ تراه يلتفُّ ويلتفّ ولايغنيك في نهاية الأمر بمعلومة أو فكرة أو رؤية أو رأي . إنه يسوقُ لك أوهاماً ولاشيء غير هذا . أتساءلُ دوماً في مثل هذه الحالات : هل قرأ ( فلان ) الكاتب أو المختصُّ بالأدب ، على سبيل المثال ، سلسلة كتب ( تأريخ النقد الأدبي الحديث ) للراحل ( رينيه ويليك ) ؟ تقرأ صفحة في كلّ كتاب منها وإذا بشلّال من الأفكار والأسماء والأفكار يرشقك على نحو لاينقطع ؛ فتتساءل : كيف تسنّى لويليك قراءة كلّ هذه المصادر ؟ هل كان يقرأ حتى وهو يستحمّ؟ شيء لايكاد يصدّقه المرء . لم يكن ويليك طبعاً يتحدّث عن كتبٍ ومصادر لم يقرأها . هذا شيء لايمكن أن يحصل مع مؤلف من طراز ويليك ؛ لكنه - للأسف - يحصل عندنا . أضاف ويليك الكثير من الإضاءات على الأعمال التي تناولها في كتبه ، ولم يعمد إلى كتابة تمويهية يلفها الغموض .
الأمر ذاته يحصل مع الكتابة في الحقل العلمي . عندما توفي قبل بضعة شهور ( ستيفن واينبرغ ) الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء قرأت مقالات عديدة عنه وراجعتُ قائمة كتبه ومنشوراته ، فوجدتُ أنه ألّف حوالي خمسة عشر كتاباً مرجعياً ( بضمنها مقرّرات جامعية معتمدة ) فضلاً عن مئات الأوراق العلمية المنشورة في مراجع علمية عالمية .
لو كانت لنا القدرة على إحداث ثقب في جدار كهفنا الأفلاطوني – حتى لو بمقدار خرم إبرة – لعرفنا كمّ الأوهام والأباطيل التي نستطيب العيش معها ، ونسعى لإقناع الناس بأنها حقائق أكيدة.
من أين تنشأ هذه الأوهام ؟ تنشأ من غياب مرجعية معرفية محترمة يمكن أن تكون بوصلة حقيقية تكشف للمرء قدراته من غير مبالغات أو مجاملات . الشخص ذاته يتحمل مسؤولية أن يغادر أوهامه . عليه أن يثقب جدار كهفه ، وأن يواصل العمل على توسيع هذا الثقب ليتحوّل من خرم إبرة إلى كوّة كبيرة بحجم نافذة .
لو شاء حبيس الكهف مغادرة كهفه لاستطاع ، ولو شاء أن لايفعل فيمكنه ذلك أيضاً . المهمّ في الأمر أن لايقاتل لتسويق أوهامه إلى الآخرين .