طالب عبد العزيز
في البدء لم يكن الانسان يكتب الشعر إنما يحياه، فقد وقف مندهشاً أمام مبزغ الشمس، وهي تتفلت من كفن الافق الاسود لأول مرة، لتشرق بيضاء، ناصعة ودافئة، وتنبّه مأخوذا بالريح، وهي تعزف اللحن الاول له، بين غصون الاشجار، وحين جلس، ولأول مرة على حافة البحر ظلَّ واجماً، امام الموج، وهو يتردد على الرمل والحصى، أو وهو ينبعث ثانية من بين فروج الصخر... وهكذا، حيث لم يكن هناك مهرجان للشعر، ولم يقف أحدهم على صخرة مرتفعة، لينشد شيئاً مما جال في خاطره، أو تحرّك فيه، إنما ظلَّ صامتاً، متأملاً ذلك كله.
أنْ أخلدَ وحدي، في الغابة الصغيرة، حيث أعيش، ذلك ما أريده. فأنا، آخذ طريقي الى دارة الخطار، صباح ومساء كل يوم، أستبدل موضع قدمي على بلاط الممشى الطويل، الملون بالابيض والاحمر والاصفر، فأبدأُ بلونٍ وأنتهي بآخر، ثم انصرف الى اللون الثاني في اليوم الذي يليه، ابتدئ به وأنتهي بغيره، هكذا، في لعبة لونية، أصير الى سياج الحديقة ساعة تلسعني الشمس، وأبتعد عنه، إذا هبّتْ نسيمة باردة، في العصف الاول للفجر، أحصي أنفاس الفسائل الصغيرة، والقي باللائمة على يدي، التي أهملت الشجرة تلك، ومن بين صويحبات لها اتفرس في وجه الاوزّة، التي مرضت البارحة، وأبتهجُ في كل قلبي، إذا وجدتها عند حويض الماء، ملتفةً، متنعمة بالشمس..
أعرف أنَّ الغابة، غابة الرؤيا، لم تعد كاملة، هناك من يقرض أطرافها بالحديد والاسمنت ، وهناك من يطرد عصافيرها وبلابلها وهوامها أيضاً، وأنَّ النهر الصغير الذي يلي البيت لم يعد بفتوته التي كانت، وأنَّ البحرَ أبعد ما يكون عن الرؤيا .. وأنَّ، وأنَّ، لكنْ، على الشاعر أن يستحضر غابته غوايته الاولى، ليس بمعناها الوحشي، إنما ببدئيتها، وبفطرتها التي كانت قائمة الوجود، وحاضرةَ الدعة والطمأنينة.. يستحضرها حيثما كان ووجِدَ، وحيث ولد، أو حيث وجد نفسه بأنفاس متقطعة أخيرة. قاعة المهرجان، وباحة الرقص، والمباني الاسمنتية المشيدة، التي استحدثت لترويضنا، منشدين، ومصغين، ومتأملين لا تصلح لإستعادة ما كان ذات يوم، أبداً، هناك خلل ما في توقير الجمال، استهانة في تطلع الروح، وكل ما ندخله من أبهاء وصالات إنما ندخلها لأننا أضعنا الوجود الاول، فرّطنا بمطلع الشمس بين الاغصان.
هو ضرب من الخيال نعم. وهو محاولة في استعادة ما ضَمُرَ واختفى، لكنْ، سيكون بمقدور الذات الشاعرة الحُلم، فهو العصيُّ الوحيد على الزوال، وهو الطاقة التي لا تفنى في الوجود، لأنها لم تستحدث من مادة عضوية، لأنها ليست من اللحم أو الحجر والطين بشيء، إنما خلقت من العدم الازلي، الذي لم تكوره يدُ الخلق الاولى، وإذا كنا قد سلّمنا بأنَّ الالهة خلقت الجسد من الماء، فهي لم تخلق الحُلم، إذ، كل مخلوق يحلم على وفق مشيئته، ويتأمل وجوده . فتعالوا لنحلم، بعيداً عن صالات العروض، وخارج مقاعدها التي شغلت بالآخرين، عشرات ومئات المرات، ولنبحث عن حجرنا الوحيد، الذي لم تطأه قدم من قبل، ولنبحث عن الموجة التي لم تقع عليها عين من قبل، عن الريح التي لم تتلوث بأنفاس أحد من هؤلاء.