نحتاج الى التاريخ لكي لايقتلنا الواقع
فرار الايزيديين من جبالهم أثر بي بقوة ..
ترجمة : عدوية الهلالي
يعد شريف مجدلاني المولود في بيروت عام 1960 من أبرز الروائيين اللبنانيين الذين يكتبون باللغة الفرنسية ، ويقوم مجدلاني بتدريس الآداب الفرنسية في جامعة القديس يوسف في بيروت ، وهو رئيس جمعية " بيت الكتّاب " منذ عام 2012 ، وقد اصدر سبع روايات ترجمت الى عدة لغات منها " سيد المرصد الاخير " و" فيللا النساء" الحائزة على جائزة جان جيونو الكبرى عام 2015في فرنسا ، كما فاز بجائزة " فيمينا " في فئة (لجنة التحكيم الخاصة ) عن كتابه " بيروت 2020 " الصادر عن دار نشر " اكت سود " في فرنسا ودار " شرق الكتاب" في لبنان ..
اعتاد قراء مجدلاني على رواياته التي تتناول مصائر الأفراد ، والملاحم العائلية ومسار التاريخ ، ولبنان ماقبل الحرب الأهلية. لكنه أصدر مؤخرا رواية مختلفة تمامًا نشرتها دار آكت سود الفرنسية بعنوان (الواحة الأخيرة )، فهي تتناول قصة وجودية سياسية مثيرة.وتقع أحداثها في الشرق الأوسط ،لكنها لا علاقة لها بالأجواء الراقية والحنين لفيلات بيروت ، فهي تقع في الصحراء العراقية ..
يبدأ كل شيء بكنز آشوري غير عادي متكون من اربعة رؤوس جبسية ولحى متعددة مع ستة افاريز منقوش عليها صائدو أسود وفلاحين يقطفون الفاكهة ،حيث يُطلب في الرواية من عالم آثار فحص هذه الافاريز الآشورية ليجد نفسه في مكان يكاد يكون اقرب الى الفردوس بهدوئه وطبيعته الاستثنائية ..سيلتقي هناك بجنرال عراقي ذو نوايا غير مفهومة و شاب مثقف من سكان المدينة يختلف تماما عن الجنود والفلاحين الذين يسكنون الواحة كما سيلتقي ببعض الوسطاء من الاتراك والعراقيين والروس المشبوهين والخطرين حتما ..في غضون ذلك ، يتأمل الراوي المناظر الطبيعية الخلابة والآثار الفنية والتاريخية ، لكن تلك المتعة تتلاشى عندما تحين اللحظة التي تستولي فيها ميليشيات الدولة الإسلامية على الموصل ، ثم تذبح المسيحيين والأيزيديين في سهل نينوى ، اذ يتبين أن الواحة الفردوسية أصبحت "قريبة بشكل مروع من فوهة الجحيم" ، بوجود الطائرات بدون طيار والتفجيرات والسيارات المفخخة. .
تبدأ الرواية بالتأمل الحالم ، وتتحول فجأة إلى قصة مثيرة جيوسياسية. ويكون التغيير وحشيا ، وكأننا نتخلى عن تعرجات نهر هادئ لنلقي بأنفسنا في انهيارات شلالات نياجرا أوعمق النيل. فأحيانًا يكون لسرد القصص إيقاع حكاية أسطورية تنتقل من زمن سحيق ، وأحيانًا توتر رواية مثيرة. ومما لا شك فيه أن هذه التغييرات في الإيقاع ، وكذلك الاختلافات الدقيقة في المسافة بين المؤلف والراوي ، هي التي تعطي الكثير من الطاقة والحدة للقصة. وهو ما يتسبب في انجذاب القارئ ما يمكن للإنسان وما لا يمكنه عمله في مواجهة الأحداث ، وهوما نسميه (التاريخ) . اذ يقول عالم الآثار في الرواية : "مثل الفن ، نحتاج إلى التاريخ حتى لا يقتلنا الواقع ، فكل شيء هو فوضى بلا معنى ، بلا منطق وبدون هدف. "...
مجلة (en attendant nadeau) الفرنسية أجرت حوار مع الكاتب جاء فيه :
*ماذا كانت نقطة البداية؟ وهل كان لديك تصور معين للرواية ؟
-في كل مرة أبدأ فيها كتابًا ، أحاول أن أصنع نصًا شعريًا رائعًا يمثل نوعًا من المديح التأملي للعالم. ولكن ، من الواضح أن هذا غير ممكن ، لأنني روائي ، وعندما تأتي الحكاية بسرعة تفرض نفسها ، ويتم بناء الرواية.
*تختلف ( الواحة الاخيرة ) تمامًا عن رواياتك السابقة ، هل أنت على علم بذلك؟
-إنها مختلفة وغير مختلفة ، فلا يوجد تاريخ عائلي ولا لبنان. ولكن قبل كل شيء ، لم أكن اريد تحويلها إلى كتاب عن العراق أو عن الدولة الإسلامية. لا يهم مكان حدوث ذلك ، إنها ذريعة للتحدث مرة أخرى عما اتناوله في كل كتبي: اي دور التاريخ ، وتأثير اضطراباته على البشر ، وانهيار العالم. في هذا الكتاب ، الموضوع أكثر تركيزًا، فهو يتعلق بالمسيرة الشاذة للتاريخ ، والفرص التي تحكم الأشياء ، وعجز الانسان وأنانيته المذهلة. وحقيقة أن المؤرخين عمومًا ، مثل الروائيين ومثل بطل هذا الكتاب ، هم الذين يحاولون تنظيم فوضى الأحداث واضطرابها ، ما ينتج خطابًا يعطينا الانطباع بأن كل شيء مكتوب، يتحكم فيه الانسان ، يكون شفافا. من أجل هذا ، وضعت القصة في مكان حدث فيه تحول كبير ، وفي لحظة محورية ، عندما كان العالم كله تقريبًا غارقًا في الفوضى. في صيف عام 2014 ، عندما انهار تنظيم الدولة الإسلامية ، وكانت سوريا في حالة يرثى لها ، والعراق أيضًا ، كنا في بداية موجة هجرة كادت تزعزع استقرار أوروبا ، وتدفع الديماغوجيين إلى لعب لعبتهم وتعريض الديمقراطيات للخطر. .
*شكل الكتاب مختلف أيضًا ،اذ يبدو أحيانًا تقريرياَ. كيف نسجت الاحداث؟
- لقد عشنا جميعًا الحدث في ذلك الوقت عندما غزت داعش الموصل وجزءًا من العراق. وأتذكر الصور التي تم بثها على القنوات العربية. وعند رؤية اليزيديين يفرون من جبالهم ، صارلدى المرء انطباع بأنه يشهد نسخة جديدة من خروج إبراهيم من العراق في الكتاب المقدس ، كما لو أن التاريخ أعاد الأساطير القديمة. وهذه الأشياء أثرت بي بقوة ،ثم قابلت لاجئين عراقيين في بيروت ، والعديد من المسيحيين الذين جاؤوا من تلك المنطقة ، حيث وصفوا لي الاحداث كما عاشوها في الداخل. انا لم أذهب إلى العراق أبدًا ، ولكن لأكتب عن هذه الواحة في الصحراء ولجعلها حقيقية ، استخدمت Google Earth ، فوجدت مكانًا ، ومزرعة ، بجانب نهر وصحراء ، وقمت تقريبًا بتحديد موقعي في واحة خيالية. لقد بحثت عن صور لهذه المزرعة ، لأجعلها أكثر دقة ثم أكتشفت بعد ذلك وجود جسر حديدي هناك. وقبل هذا الاكتشاف ، انتقلت شخصياتي من الشمال إلى الجنوب دون عوائق لأنني لم أكن أعتبر أنه يتعين عليهم عبور هذا النهر بالضرورة. لذلك أضفت جسرًا حديديًا ، والذي عدل قليلاً بعض الترتيبات السردية. وكان من الضروري أن يكون لدي فكرة دقيقة عن الحرارة والرطوبة والضوضاء وروائح الأماكن ، بحيث يكون الامر حقيقيًا وليس مجرد شيء شرقي. ولكن من الصعب جدًا وصف مكان ما إذا لم نتخيله ، ونشعرنا به ونشم رائحته... لذلك قمت ببعض البحث ، واستجوبت بإصرار معارفي العراقيين عن الضوضاء والروائح وفيما يتعلق باحتمال وجود صراصير الليل هناك ، على سبيل المثال ..
تتحدث الرواية عن انقلاب الصدفة وتغير التاريخ ..لنأخذ مثالا الدولة الإسلامية والاستيلاء على الموصل ..فهذه القصة بأكملها ، بدت لي دائمًا وكأنها نتيجة ضربة حظ لا تصدق من داعش مقابل العجز الرهيب للعراقيين والجيش. أنا مقتنع بشدة أن الإسلاميين كانوا يفكرون فقط في عمل بسيط ضد المدينة ، لكن المفاجأة الإلهية ، انها سقطت في أيديهم ووقع العالم كله في حالة من الفوضى.
لقد قيل أيضًا ، أن إحدى خطط الدولة الإسلامية كانت إرسال موجات من اللاجئين إلى أوروبا ، لزعزعة استقرار الدول الأوروبية ، وإثارة ردود فعل من رفض كراهية الأجانب ، وبالتالي الصراعات التي كانت ستؤدي إلى "صدام حضارات كبير". ولكن ، لم تكن هناك خطة ، كل هذا حدث لأن الوضع في العراق تم إدارته بشكل سيء من قبل جميع الأطراف ، مما عاد بالفائدة على المتطرفين. لكن المحللين وصفوها طوال الوقت بأنها خطة معدة بعناية. لأن المحلل السياسي ، يعتمد بقدر ما يحتاج المؤرخ ، على المنطق ..
*فرضيتك مثيرة للاهتمام ، لكنها متشائمة للغاية. هل يمكن أن تكون مرتبطة بما تراه في لبنان؟
-ربما ، ولكن ، كيف لا نكون متشائمين عندما ننظر إلى المجتمعات الغربية اليوم ونرى إلى أي مدى تكون مدفوعة بالغرائز الانتحارية ، ومهتمة بالديماغوجيين القادرين على توجيه ضربة قاتلة للديمقراطيات. ربما تقودني ولادتي في بلد يهزه التاريخ بشكل خاص إلى أن يكون لدي نظرة أقل تفاؤلاً بشأن بقية العالم ، حول الفوضى المذهلة للقرارات التي يتخذها أولئك الذين يحكموننا. وعندما نرى الضرر الهائل الذي سببته الولايات المتحدة ، أعظم قوة في العالم ، في العراق ، وفي أفغانستان ...وبعد كل هذه الأموال التي تم إنفاقها ، وكل هذه الوفيات ، نجد أنفسنا في نفس الوضع كما كان قبل عام 2001 ، وهذا يتناقض تمامًا مع فكرة التخطيط الفعال والقدرة على اتخاذ قرارات دقيقة وطويلة الأجل. انه يرجح فكرة عدم الكفاءة ، والتهور ، وبالتالي الانتروبيا والاضطراب ، وليس التخطيط ...
*لماذا تقول إن نظرتنا إلى العالم تتشكل من خلال الخيال؟
-بتعبير أدق ، أقول إن عالمنالا يزال مبنيًا على الخيال ، ولا سيما اليوم من خلال مسلسلات التجسس وأفلام الإثارة ، والتي تعطي انطباعًا دائمًا بأن هناك قصدًا ، وغالبًا ما يكون خبيثًا. ، وازاء كل ما يحدث، تتأثر الطريقة التي ينظر بها الكثير من الناس إلى السياسة والشؤون العالمية إلى حد كبير ، وبالتالي من خلال هذه الرؤية للجغرافيا السياسية حيث تتمتع القوى العظمى ، وخاصة قوى الشر ، بقدرات غير عادية على التخطيط للسيطرة على العالم.