TOP

جريدة المدى > عام > الفلسفة: هل هي علاجٌ أم بحث عن الحقيقة ؟

الفلسفة: هل هي علاجٌ أم بحث عن الحقيقة ؟

نشر في: 9 نوفمبر, 2021: 11:16 م

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي*

رأى كثرةٌ من عظماء الفلاسفة أنّ الفلسفة وسيلةٌ علاجيةٌ بوسعها قيادة المرء نحو بلوغ حياة أكثر انتعاشاً وثراءً . حصل هذا الأمرُ منذ عهد سقراط ( الذي أوصى مُريديه بأن ينتبهوا لصلاح أرواحهم ) ،

ثمّ أعقبه أبيقور ، وديوجين ، والفلاسفة الرواقيون ، وأرسطو ، وأفلاطون ، وبويثيوس ، وطائفةٌ من الرؤيويين القروسطيين من أمثال إراسموس ، ثمّ ديكارت ، وشافتسبري ، وكانت ، وهيوم ، وفولتير ، ومِلْ ، وبنثام ، ورسل ( الذي كتب عن غَلَبة السعادة ) ، وفتغنشتاين ....... ، هؤلاء جميعاً رأوا في فعل التفكّر الفلسفي عنصراً قادراً على جعل الحياة أفضل . يستطيعُ المرء ، حتى مع فلسفة نيتشه ، أن يخلُص إلى نتيجة مفادُها أنّ الرجل رأى في فلسفته – لو تمّ تعضيدُها بشكلٍ ما – القدرة على الإرتقاء بحياة البشر . دعونا من الإتيان على ذكر الفلاسفة السياسيين الذين لطالما حسبوا فلسفاتهم قادرة على الإرتقاء بالفكر السياسي ، ومن هؤلاء : أفلاطون ، أرسطو ، ميكيافيللي ، هوبز ، روسو ، ماركس وآخرون .

أمسينا نشهدُ في الفلسفة المعاصرة – الفلسفة المعاصرة دون كلّ الفلسفات ! – غياب العنصر الرائع المتمثّل في الغاية Purpose ، حيث لم يعُد الفلاسفة يرون حقاً غاية أو قصداً في كلّ مايفعلون ؛ وبالنتيجة المحتّمة صار تأثيرهم على ثقافتنا المعاصرة يقترب من مرتبة الضآلة البالغة . ربما لن يكون هذا الأمر ذا شأن لأنّ عامّة الناس ( خارج نطاق المهتمّين بالفلسفة التحليلية على وجه التخصيص ) مازالوا يعودون إلى قدماء الفلاسفة سعياً لبلوغ إجاباتٍ عن الأسئلة المُلحّة في عقولهم على شاكلة :

- كيف ينبغي لنا أن نعيش ؟

- ماالذي يتوجّب علينا أن نسعى إليه في الحياة؟

لكنّ مايؤسفُ له حقاً أنّ بعضاً من الإجابات المطلوبة عن هذه الأسئلة لم تعُد شأناً مهمّاً في نظامنا التعليمي ، وفضائنا الثقافي بعامة .

أقدّمُ في المادة التالية حوارية مثيرة بين فيلسوفيْن بات لهما صيتٌ ذائع على مستوى العالم من حيث القيمة العملية لآرائهما الفلسفية التي تعتمدُ جانب التأثير المباشر في نوعية الحياة البشرية وعدم الإكتفاء بالتفكّر الفلسفي القابع في مملكة منعزلة .

ثمة أهمية خاصة لمثل هذه الحواريات في بيئتنا العربية ؛ فبعد أن تعاظمت المناداة بأهمية الفلسفة وضرورتها في إحلال المياه النقية محلّ المياه الراكدة صار أمراً مهماً تشخيصُ أية فلسفة هي المبتغاة في تثوير العقل العربي . إنّ المُدقّق النشيط في الأدبيات الفلسفية السائدة في جامعاتنا وثقافتنا العربية يرى أنها تتموضع في ثلاثة أشكال معروفة : فذلكات تأريخية أقرب إلى الهوامش الخاصة بتدوين الوقائع التأريخية المتعلقة بفلسفة محدّدة ، أو فلسفة تتصادى مع بعض جوانب تراثنا الذي ماكانت فيه الفلسفة سوى شكلٍ مضمر من الشروحات والتعقيبات على هوامش الفلكلوريات التراثية ( موضوعة الأصالة والمعاصرة ، والموقف من التراث ،،، إلخ ) ، أو رطانات لغوية هي في أغلبها ترجمات فجّة لبعض الفلسفات الموصوفة بِـ ( مابعد الحداثية ) والتي سادت في القارة الأوربية ( فرنسا بخاصة ) بعد الحرب العالمية الثانية ، وقد إدّعت هذه الفلسفات إحداث ( قطيعة إبستمولوجية ) مع الفلسفات السابقة لها عبر تعشّقها مع الثورات الحديثة في اللغة والسايكولوجيا الإدراكية . إنّ مثل هذه الحواريات تكشف لنا كيف يفكّر الآخر ، وكيف يطوّعُ موضوع تفكيره لبلوغ نتائج مفيدة وذات قيمة عملية يستشعرها الفرد في حياته .

سنرى في هذه الحوارية مقاربة تسعى لجعل الفلسفة ذات مفاعيل مؤثرة في حياة الفرد ، وهذا توجّه بتنا نلحظه في الكثير في المؤلفات الفلسفية في العقد الأخير ، وبخاصة فيما يخصّ توظيف الفلسفة في الارتقاء بحياة الفرد ( أي بمعنى إضفاء قيمة علاجية عليها ) ** .

الفيلسوف الأوّل في هذه الحوارية هو نايغل واربرتون Nigel Warburton ، المعروف بأنه فيلسوف وكاتب بريطاني تتوجه كتاباته إلى جمهور غير المتخصصين في العادة رغم أنه كتب عدداً من الكتب الفلسفية الأكاديمية في حقل الجماليات والأخلاقيات التطبيقية . من كتبه المنشورة :

- مختصر تأريخ الفلسفة A little History of Philosophy ، المنشور عام 2011 ( تتوفر ترجمة عربية له ) .

- الفلسفة : الكلاسيكيات Philosophy : The Classics ، المنشور عام 2014

- الفلسفة : الأسس Philosophy : The Basics ، المنشور عام 2012 ( تتوفر ترجمة عربية له ) .

- قضمات فلسفية Philosophy Bites ، المنشور عام 2010 ( يدير الفيلسوف موقعاً فلسفياً ألكترونياً بالاسم ذاته ، كما نشر جزءً ثانياً من الكتاب عام 2014 )

- التفكير : من الألف إلى الياء Thinking : From A to Z ، المنشور عام 2007 ( تتوفر ترجمة عربية له )

- الفلسفة : الدليل الأساسي لدراستها Philosophy : The Essential Study Guide ، المنشور عام 2004

- الفلسفة : قراءات أساسية Philosophy : Basic Readings ، المنشور عام 2004

أما الفيلسوف الثاني في هذه الحوارية فهو جول إيفانز Jules Evans الذي يعملُ زميلاً باحثاً في مركز تأريخ المشاعر بجامعة Queen Mary بجامعة لندن . من كتبه المنشورة :

- فن السيطرة على الخسارات The Art of Losing Control ، المنشور عام 2019

- فلسفة للحياة وحالات خطيرة أخرى Philosophy of Life and Other Dangerous Situations ، المنشور عام 2013

تُرجِمت هذه المادة عن موقع Aeon الألكتروني ، وهي منشورة بتأريخ 18 يناير ( كانون ثاني ) 2016

الرابط الالكتروني :

https://aeon.co/ideas/should-philosophy-be-therapy-or-a-simple-search-for-truth

المترجمة

نايغل واربرتون : ثمّة الكثير من الشغف والإهتمام في إستعادة الفلسفة الرواقية*** Stoic philosophy في أوقاتنا الراهنة ، وبخاصة في الجوانب العلاجية منها . أراني من جانبي متشكّكاً بهذا المسعى لأني أرى أنّ الفلسفة في جوهرها الأساسي محاولةٌ للفهم ؛ وبهذا فهي فاعلية تنطوي على أكبر قدر متاحٍ من المساءلة . ليس ثمّة مِنْ ضمانة مؤكّدة بأنّ إكتشافنا كيفية عمل الأشياء سيكون مصدر منفعة لنا من الوجهة النفسية ؛ بل قد يجعل الأمور أسوأ عمّا كانت عليه من قبلُ ، وكما أشار فريدريك نيتشه فإنّ إكتشافنا هذا قد لايُتيحُ لنا حتّى مواجهة الحقائق الأعمق للواقع ؛ الأمر الذي يجعل الوجود البشري ذاته شيئاً يستعصي إحتماله . كيف ترى الأمر ؟

جول إيفانز : لن أحاجج على الصعيد الشخصي في أنّ كلّ الفلسفة هي مسعى علاجي وحسب ؛ بل أرى أنّ قدماء الإغريق والرومان قدّموا تصوّراً للفلسفة يفيدُ بأنها مسعى علاجي ، وعضّدهم في رؤيتهم هذه العديدُ من الفلاسفة الهنود . طوّر هؤلاء الفلاسفة تقنياتٍ عملية مختلفة إعتقدوا بقدرتها على تحويل مسار المعاناة البشرية ، وكانت هذه التقنيات جزءً من " فلسفة حياة " شاملة . لم تكن هذه التقنياتُ – ببساطة – محض تفكير إيجابي ؛ بل رأى هؤلاء الفلاسفة حاجة عظمى في أن نرى العالم كما هو ، بكلّ تجليات اللااستقرارية والإختلاف التي ينطوي عليها ، ومن ثمّ علينا أن نقبل هذه التجليات ونتعامل معها . بعضُ هذه التقنيات تمّت إعادة إكتشافها وتوظيفها في وقتنا الراهن من قبل بعض علماء النفس التجريبيين الذين إختبروا قدرة هذه التقنيات في عكس مآلات المعاناة الخاصة بالمشاعر البشرية . أسعى من جانبي لتعميم هذه الرسالة بقدر مايمكِنني لأنّ الفلسفة القديمة تستطيعُ حقاً مساعدة البشر في التغلّب على معاناتهم ، وذلك جانبٌ من الجوانب التي يتوجّبُ الإعتراف فيها بفضل الفلسفة التي صارت موضوعاً يلقى أقلّ مراتب التقدير والتمويل ( في الأقسام الأكاديمية للفلسفة بجامعاتنا هذه الأيام ، المترجمة ) . ألاتشاركني الرأي من جانبك بأننا كلما أشعنا قدرة التقنيات الفلسفية في التعامل الخلّاق مع المعاناة البشرية فسنعملُ على الإرتقاء بأهمية الفلسفة وارتباطها الحي بعالمنا في أيامنا هذه ؟

الآن دعني أتساءل : هل أعتقدُ بأنّ طيب العيش Wellbeing قيمةٌ أعلى من الحقيقة ؟ لا . لستُ أرى الأمر على هذا النحو . آملُ أنني لن أميل أبداً إلى شيء ما لأنه يجعلني سعيداً فحسب وكانت لديّ شكوكي في أنّه ليس حقيقياً ، وهذا أمرٌ يتطلّبُ إمتحاناً متواصلاً ومساءلة لاتنقطع لإفتراضات المرء . أبتهجُ دوماً في الإنغماس بهذا البحث ، وهو في الوقت ذاته جوابٌ للسؤال التالي : لماذا لم أتوقف عند حدود الفلسفة الرواقية بل مضيتُ في عملية البحث والمساءلة الفلسفية ؟ لأنني لاأرى أنّ الرواقية هي الحقيقة الكاملة بشأن الواقع ؛ لكنّ مايمنحني الدافعية للمضيّ في عملية البحث والمساءلة هو في نهاية الأمر نوعٌ من الإعتقاد الأفلاطوني بأنّ الحقيقة شيء طيّب لنا جميعاً ، ولي أيضاً . لن يتحمّل المرء عبء البحث والمساءلة إلّا إذا إعتقد بأنّ المسعى المطلوب بلوغه يستحقّ ذلك العبء .

نايغل واربرتون : من الواضح أنْ ليس كلّ الفلاسفة المهتمّين بنوعية الحياة ينتهون إلى نتائج طيبة وعلى نحو متماثل بينهم . أشرتَ في جوابك السابق إلى وجود شواهد تجريبية - داعمة للتقنيات النفسية – وجدتَها في بعض الفلسفات القديمة . هل يمكنك أن تقدّم لنا توضيحاً متخصصاً لهذا الأمر ( بدلاً من الإكتفاء بعبارات عامة ) ؟

جول إيفانز : العلاج السلوكي الإدراكي CBT هو أحد العلاجات النفسية السائدة التي تمّ إعتمادها وترخيص العلاج بها من قبل معهد الصحة الوطنية وجودة الرعاية NICE ، وصارت خدمات الصحة الوطنية تقدّمها على نحو سياقي منتظم . مُكتَشِفا هذه التقنية العلاجية ، المعالجان النفسيان الأمريكيان ألبرت إيليس Albert Ellis و آرون بك Aron Beck ، أخبراني بأنهما إستمدّا الإلهام من الفلسفة الرواقية بشكل مباشر في تطوير هذه التقنية . تتأسس تقنية العلاج السلوكي الإدراكي أساساً على الفكرة الرواقية التي ترى أنّ مشاعرنا ترتبط مع أفكارنا ومعتقداتنا ، وأنّ بوسعنا تعلّم كيفية خلق " مسافة إدراكية " بيننا وبين معتقداتنا التلقائية بطريقة تضمنُ إعتبارنا لها محض أفكار وليست حقائق . تعمل تقنية العلاج السلوكي الإدراكي على تطوير ممارسات خاصة مستمدّة من الفلسفة ( الرواقية ) القديمة لها القدرة على تحويل مسار أفكارنا ، مثل : إستخدام ( دفتر يوميات ) لتعقّب - ومن ثمّ القدرة على تحدّي - أنماط أفكارنا التي صارت عادات راسخة ، توظيف الحِكَم ( الأقوال المأثورة ) واستظهارها سعياً نحو تحويل الرؤى إلى عادات يومية ، إستخدام تقنيات التخييل المرئي في تغيير منظوراتنا الجوهرية في الحياة ، إستخدامُ العمل الميداني لتحويل المعتقدات الجديدة إلى أفعال أقرب لعادات بديلة عن السابقة ، وهكذا ،،،،،،،، .

نايغل واربرتون : ألاترى في هذه المقاربة دليلاً يعضّدُ إستخدام التقنيات النفسية – مثل تقنية العلاج السلوكي الإدراكي – بدلاً من اللجوء النكوصي إلى الفلسفة الرواقية القديمة ؟ أرسطو كان نموذجاً لمشروع عالِم ريادي مبشّر بالكثير من الإمكانيات ؛ لكنّ علماء اليوم سيعتبرون لجوءهم إلى ممارساته أسوأ نصيحةٍ يمكن أن يقدّمها أحدٌ ما إليهم .....

جول إيفانز : لو كنتَ تعاني من إضطراب حاد في مشاعرك فإنّ العلاج السلوكي الإدراكي هو – بالتأكيد – نقطة الشروع المناسبة للبدء في علاجك ؛ لكن برغم ذلك فإنّ هذه التقنية العلاجية تغضّ النظر عن الكثير من الأمور المهمّة :

أولاً : تنطوي الأدبيات المكتوبة الخاصة بهذه التقنية على جمالٍ أقلّ بكثير من جمال كتابات ماركوس أوريليوس ، ولوكريتيوس أو سينيكا ، والجمال – كما نعرف – له سطوة لايمكنُ نكرانها على الروح .

ثانياً : يحوّل العلاج السلوكي الإدراكي التقنيات القديمة إلى تفاصيل إجرائية محدّدة ، ولايعيرُ أهمية لأية فكرة تختصُّ بالهدف الأخلاقياتي ( على سبيل المثال : السعادة ، السلام الداخلي ، الفضيلة ، العدالة ،،،،، إلخ ) .

ثالثاً : لايخبرنا العلاج السلوكي الإدراكي أي شيء حول الكيفية التي يمكن بها إرتباط الأخلاقيات مع كينونتنا المادية ؛ في حين أنّ القدماء حاولوا – في أقلّ تقدير – الإجابة على هذا السؤال وبالتالي تذكيرنا بمدى أهميته الجوهرية .

رابعاً : صُمّمت تقنية العلاج السلوكي الإدراكي لتكون تداخلاً قصير الأمد لفترة تمتدُّ من ثمانية أسابيع إلى ستة عشر أسبوعاً بدلاً من أن تكون فلسفة تستغرق الحياة بأسرها ( أي أنها ليست ممارسة يعتمدها المرء طيلة حياته ) . لن تكون ممارسةً مناسبةً بالنسبة لمعالج نفسي أن يفرض فلسفة أخلاقياتية عليك لتكون علاجاً مناسباً لك من الإكتئاب أو القلق ؛ بل يكتفي بأن يوفّر لك التقنيات الأساسية القادرة على حفز التغيير الذاتي فيك ، وستبقى في نهاية المطاف مسؤوليتك قائمةً في إعتماد " فلسفة الحياة " الأوسع المناسبة لك .

نايغل واربرتون : أرى أنّ أصل كلّ هذه الإختلافات إنما ينبعُ من كيفية رؤيتك للفلسفة وعمّا ينبغي أن تكونه . من جانبي أرى الفلسفة كفعالية جوهرُها التفكير النقدي بشأن مانحن ؟ وماموقعنا الذي تحدّده علاقتنا بالعالم ؟ وتلك فعالية لها تأريخ ضاربُ في القِدَم وينطوي على ثراء فكري غني .

تختصُّ الفلسفة بكيفية ( وجود ) الأشياء ، وحدود مايمكن لنا معرفته ، والكيفية التي ينبغي لنا بها العيش . أطروحات الفلسفة مضادةٌ للأطروحات الدوغمائية ( المعتقدات الجامدة ) ، وهي ( الفلسفة ) تسعى لمساءلة المفترضات بدلاً من الإيمان الناجز بها . ليس ثمّة مِنْ فلسفة جادة ( حقيقية ) يمكن أن تترك الفيلسوف لابثاً في مكانه من غير تغيير ؛ لكنّ هذا لايعني بالضرورة المحتّمة أنّ التغيير سيكون نحو الأفضل أو جالباً للمواساة ، وسنكون مخطئين كثيراً لو تصوّرنا العكس ( أي حتمية أن يكون التغيير نحو الأفضل ) . ثمّة مخاطر مهولة في إمكانيات الخداع الذاتي هنا : في أن نتصوّر الفلسفة نوعاً من الحلّ الناجع الذي سيكفلُ لنا جميعاً حياة أفضل وأناساً أكثر عقلانية ، وإذا ماشئتُ تقديم مثالٍ واحد فحسب فسأقول : يمكن للمنطق المتماسك الخالي من العيوب ، على سبيل المثال ، أن يقود إلى ضلالات خطيرة للغاية متى ماكان قائماً على مقدّمات زائفة . كيف ترى الفلسفة ؟

جول إيفانز : أنا أقاربُ الفلسفة بنوعٍ من البراغماتية ( التوجّه العملي ) . لديّ مجموعةُ قيمٍ ، وفكرةٌ عمّا يكونه العالَمُ ، وأحاولُ توظيف هذه القيم والفكرة ، وأن أتفكّر في إمكانية العيش بهما في هذا العالم : هل يتناغمان مع الواقع ؟ وهل يقودان إلى معنى موسّع بشأن الإرتقاء والعيش بشكل أطيب في هذا العالم ؟ الواقعُ من جانبه ( بما فيه من أناسٍ آخرين سواي ) يعملُ على التأثير فيّ بطريقة التغذية الإسترجاعية Feedback ولاينفكّ يُعْلِمُني فيما لو كنتُ أعيشُ بحكمة أم بحماقة . هذه الصيرورة Process ثنائية الإتجاه هي فعالية دائمة التغيّر ؛ فأنت تعملُ دوماً على إعادة تكييف إفتراضاتك الأساسية وتعيدُ النظر فيها ؛ لكنْ لاأظنُّ أنّ أي واحدٍ فينا يمكنُ أن يكون كائناً مضاداً للدوغما بشكل كلي وكامل لأننا في نهاية المطاف نحتاجُ مجموعة من القيم والآراء التي تعيننا على العيش في هذا العالم . لو كان كلٌّ منّا فرداً مسكوناً بقناعة الشك الكامل في كل شيء فأظنّه لن يكون قادراً على مبارحة سرير نومه !

نايغل واربرتون : نعم بالطبع ، يتوجّبُ علينا أن نتعامل مع بعض الأشياء باعتبارها كينونات متفقاً عليها ؛ لكنّ يبقى كلّ شيء قابلاً للمساءلة من حيث المبدأ على الرغم من أنّ بعض المعتقدات أكثر تجذراً فينا من سواها . أحبُّ فكرتك عن التوازن الإنعكاسي المتبادل بين الأفكار والتجربة المُعاشة ، وهنا أتوق لسؤالك عن أيّ القيم تحاولُ العيش بِهَدْيِها كنتيجة لمقاربتك الفلسفية هذه ؟

جول إيفانز : أحاولُ العيش بقيم التواضع ، واللطف ، والخشوع ، والإبداع ؛ لكنّك لو علمتَ بمدى سوء العيش الذي عشتُهُ في حياتي تحت هذه القيم فربّما ستنتابكَ نوبةً لاتنقطع من الضحك . ماذا بشأنك أنت ؟

نايغل واربرتون : أحبُّ العيش طبقاً لما عرضه برتراند رسل في حديثه الإذاعي الموسوم رسالةٌ إلى المستقبل Message to the Future الذي ألقاه من إذاعة ال BBC عام 1959 . وضع رسل قيمه الفلسفية في هذه الرسالة تحت مبدأين أساسيين :

المبدأ الأول : حاوِلْ أن تنظر إلى الحقائق المجرّدة في كلّ موضوع بدلاً من الإرتكان إلى ماترغبُ أنت في أن يكون حقيقياً ، وهذا ليس بالجهد اليسير بكلّ تأكيد .

المبدأ الثاني : وهو مبدأ آخر أراه قاسياً على أن يعتمده المرء في حياته . " الحب حكيم ، والكراهية حمقاء " . يتوجّبُ علينا أن نتعلّم كيفية التعايش مع حقيقة أنّ الناس سيقولون دوماً أشياء لن تعجبنا ؛ بل حتى قد يكرهوننا . لكي نعيش معاً نحتاجُ إلى أن نكون قادرين على التفكير الحر ، وأن نُبدي التسامح بشأن الآخرين ممّن يفكّرون – مثلنا – بحرّية .

أراني - مثلك - فشلتُ في العيش بهَدْي هذه القيم معظم الوقت ؛ لكنّ هذين المبدأين يظلّان صالحيْن برغم كل شيء .

* كاتبة ومترجمة وروائية عراقية تقيم في الأردن

** يمكن في هذا الشأن ، وعلى سبيل المثال ، الإشارة إلى كتاب ( دروسٌ في الرواقية Lessons in Stoicism ) لمؤلفه الفيلسوف البريطاني جون سيلرز John Sellars ، المنشور عام 2019 عن دار نشر Allen Lane

*** الفلسفة الرواقية : مدرسة فلسفية أسّسها ( زينون الرواقي ) في أثينا أوائل القرن الثالث قبل الميلاد . ترى هذه الفلسفة أن مشاعرنا السلبية ناجمة عن أخطاء في الرؤية والقناعة ، وأنّ شخصاً حكيماً يحوز الكمال الفكري والأخلاقي لاينبغي أن يعاني تلك المشاعر . ( المترجمة )

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

أوليفييه نوريك يحصل على جائزة جان جيونو عن روايته "محاربو الشتاء"

مقالات ذات صلة

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
عام

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

علي بدرفي مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram