حيدر المحسن
يعرّف معجم المصطلحات الأدبيّة الوصف بأنه تمثّل بصريّ للشّيء كيف يبدو، وكيف يكون مذاقُه ورائحته ومسلكه وشعوره. وفي قاموس المحيط هو تمثيل بصريّ للواقع المادّي والنّفسيّ، وهذا التّعريف أكثر إيجازا، وأقرب إلى عمل بلزاك في قصصه، لا يترك شيئا في المكان إلّا وقام بتصويره،
كأنه يؤدّي دور الإله أسموديوس عندما كان ينزع أسقف البيوت كي يرى ما تحويه، ويطّلع على الحياة في الداخل. بينما يتوسّع معجم لاروس في تعريفه بإضافة غرض الوصف في القصة؛ وهو "إحداث أثر جماليّ"، أي أنّه ليس عملا إنشائيّا بحتا، وإنّما صار تأليفا أدبيّا يدخلُ في بنائه عنصرُ الخيال، لكنّ مطابقة الواقع بصورة فنّيّة لا تتمّ إلاّ بإضافة عنصر آخرَ هو حدس القاصّ بأنّ عمله لا يلاحظه القارئ، أو يلاحظه بشكلٍ خفيفٍ، كي يكتسب ما يقوم به فعل الاكتشاف، وهكذا يأتي الوصف مدموجا مع السّرد، أو مع الحوار، ملتحما بهما، ومثال على هذا وصف "أورهان باموق" لإحدى نسائه: "وجهها شاحب، شعرها وحاجباها شقر، نظراتها دافئة. إن كانت من هذا العالم فهي مصنوعة بالأحرى من ذكريات هذا العالم". الكلام كلّه تشبيه، لكن العبارة الأخيرة جاءت تحمل الوصف والسّرد معا، وهكذا تنهض الصّورة في القصّة كأنما من تلقاء نفسها، ويشترك المؤلّف والقارئ بإعطائِها شكلَها الأخيرَ.
فرّق العلماء بين الوصف والنّعت والصّورة بأنّ الأوّل يمثّل الثّوب الرّقيق الذي يشفّ، ويصفُ جسدَ المرأة، والثّاني هو المبالغة في الوصف، أما الصّورة فهي إبانة الجسد على حقيقته. وتعريف الوصف تبعا لمعجم لاروس يجمع الثّلاثة في واحد. هنالك عمل آخر يقوم به القاصّ، هو شكّه المستديم باكتمال عمله، إنه يسائل نفسه هل تحقّق منجزه الصّوري بالشّكل الأمثل، من دون أن تتناقض أدواته الفنّيّة... يقول موباسان عن فلوبير: "كان مهووسا بالاعتقاد المطلق أن ليس ثمّة سوى طريقة واحدة للتّعبير عن شيء مَّا، وكلمة واحدة لقوله، ونعت واحد لوصفه، وفعل واحد لبعث الحياة فيه. وكان يكرّس نفسَه لجهد يفوق طاقة البشر كي يعثر، في كلّ جملة، على تلك الصّفة وذلك الفعل". كم يذكّرنا هذا بالكدح الجنوني الذي كان يكابده محمود عبد الوهاب عند تأليفه قصصه، والجميع يذكر عبارته الشّهيرة في مقاله "سيرة قصّة"، المنشور في مجلة الأقلام في التسعينات: (بعد شهور من البحث توصّلتُ إلى الصّياغة الأخيرة لجملة الاستهلال في قصّة "عابر استثنائي").
هاميلكار هو قائد قرطاجيّ مُني بهزيمة في إحدى المعارك البحريّة. في رواية سالامبو شبّه فلوبير القصر الذي ضمّ احتفال الجنود بعد إحرازهم النّصر بوجه القائد: "كان القصر يبدو للجند، بعظمته وأبّهته ومكنوناته، كأنّه وجه هاميلكار البادي الجلال الغامض، وكان السلّم الذي يتدرج به إليه مصنوعا من خشب الأبنوس الأسود يحمل في كلّ زاوية من زوايا درجاته قطعة من مقدم كلّ سفينة من سفن عدوّ مهزوم، وأبواب القصر حمراء بلون الدّم يتخلّلها رسم صليب كسواد اللّيل".
أخذ المبنى الفخم وجه القائد المنهزم، ودخلت سفنه المحطّمة في تشكيل المشهد وقد اصطبغ بلون دماء الضّحايا. يشبه هذا ما يُدعى في الفن التشكيلي بالكولاج، حيث يقوم الرّسّام بقصّ ولصق موادّ مختلفة على سطح اللّوحة لإعطائها شكلا جديدا. الكولاج إذن ليس من ابتكار جورج براك أو بيكاسو، إنّما هو تقنية استُعملت في فنّ القصّ منذ زمن بعيد. ونستنتج مما تقدّم أن الوصف ليس حِلْية تزيّن النّصّ، إنّما هو فنّ قائم بذاته، يمكن أن يلبسه الكاتب لبوس الشّعر، أو يفرشه على الصّفحة مثل لوحة...
مفتتح قصة "عابر استثنائي" الذي أمضى محمود عبد الوهاب شهورا في تأليفه هو:
"من بين ورقتيْ شُجيرة الظّلّ التي كانت تحملها بين ذراعيها المعقودتين، رَأتْهُ".