طالب عبد العزيز
في متاهة ما هو كائن ومتغير من حولنا، وما نعاني منه، وننشغل به يومياً، هناك من أهمل ذلك كله، وأستسلم نقياً طاهراً، لنداء روحه، بعيداً عن كل ما يخرّب عليه نسق يومه، فقد زهد ما تنافسنا عليه، وترك الحبل على الغارب، في دعة وطمأنينة لا يحسدها عليه إلا أمثالُنا، نحن المأخوذين بتفاهة الموجودات، الجادين في ايجاد مخرج لكلِّ أزمة، المتصارعين على المال والارض والوجاهة، يا لبؤسنا ... أولئك المستسلمون لنداء أرواحهم هم الأحقّ منا بالحياة.
لا أكتبُ يأساً، ولا أحررُ خطاباً صوفياً، ولا أصف الدنيا بــ (عفظة عنز) إنما، أتصفحُ ورقة الزمن الكبيرة، ذاك الكتاب الضخم، المسطور بملايين السنوات، ثم أتلمس، -وبيد الخجل- سنواتي الستين، فلا أقع إلا على هامش غير مرئي، محكوك بعناية، في اسفل صفحة، لم يمرّ عليها أحد، ولم يقرأ، فهو مما يتقادم ويهمل، واثق بأنَّ صفحتي تلك ستطوى، مثل ملايين الصفحات الاخرى، التي طويت، ولم تثر احداً، أقول هذه، وانا أقلبُ صفحات الاستثانئيين من المخترعين والمؤلفين الكبار في الكتاب الضخم المسطور، فإذا هي بتعلقيات بسيطة، يمرُّ الربُّ وتمرُّ الالهةُ والقرّاءُ بها مثل مرور الماء على صخرة ملساء كبيرة، فلا يتوقفُ ولا يحدثُ بها أثراً.
فعلام نضحك ونبكي، علام نركض ونسعى؟ يقول مولانا جلال الدين: عندما كنت طفلا، كانوا يقولون لي: لِمَ انت حزين؟ هل تريد ملابس؟ أتريدُ مالا؟ كنت اقول:" ليتهم ياخذون حتى الملابس التي املك، ثم يعيدوني الى ذاتي" وكنت اسمع صوتا يقول: " لا يزال غرّا. اتركوه في زاوية، ما من الكون، حتى يتمكن من إحراق نفسه!
قبل موعد زفاف أحد أبنائي بليلة، أخذني أكبرهم الى السوق، وكان جيبه قد امتلأ بالنقود، فسألني ما إذا كانت في نفسي حاجة ما، أو الى بذلة جديدة، أستقبلُ المهنئين بها، فقلت: لا. عندي من الثياب ما يكفي ستين سنة أخرى، ومن الأسى ما لا تُفلحُ الثياب بتغييبه، ثم، ما انتفاع جسد يبلى بثياب جديدة ؟ قد لا أقمع رغبة قدميَّ في السير الى المتنزه، لكنني عاجزٌ عن جعل الطريق مستحيلة الى المقبرة، وما في اليد أكثر من عصا ستنتفي الحاجة لها ذات يوم، وسيأتي الطفل الصغير الموعود بالحياة ثانية ، مثلما كنت، ويمتطيها حصاناً الى عالمه الجديد، هناك، حيث تُستبدلُ الدروب بالدروب، ويلتحقُ الانسان بجوهره الغائب.
قلتُ لأحدهم، وهو يستعجل الشتيمة لآخر: لا تبدأ بها، فالكلمة الاولى أنثى، عند شيخي أبي عثمانٍ الجاحظ، وهي ذكرٌ عند من شتمْته، لذا، سأسرّها بضاعةً، ولن أحدّثَ أحداً بها ما حييت، في جوفي مقبرة لكلمات السوء، لا تنالها يدُ الغيث، فهي الآن، وديعة سبخة روحي. في اليوم الثاني جاءني، ليستردَّ ماستودعني البارحةَ، ويعتذرُ عمّا قاله، قلتُ:" دعك منها، فقد أتت سباخُ النسيانعليها، وماتت.
جميع التعليقات 1
عدي باش
من فقة الوفاء حفظ الأسرار و ستر خلجات النفس الأمارة بالسوء .. الصحة الدائمة و العمر المديد و التألق .. أرجوها لكم صديقنا الأثير