ستار كاووش
حين تفاقم المرض على الرسام العظيم ماتيس وفقد قدرته على المشي، رقد في سنواته الأخيرة على السرير، لكنه مع ذلك لم يتوقف أبداً عن الرسم، بل إبتكر طريقة جديدة ينفذ بها أعماله، فكان يرسم وهو ممدد على سريره، حيث تُهيأ له سطوح الرسم على الجدار أو تُثَبَّتُ على سقف الغرفة،
ليقوم هذا المُلَّوِنُ المدهش بالرسم بفرشاته التي ربطها بعصا طويلة جداً، وهكذا بدأت أعماله تتغير، لكنها لم تفقد سحرها وتأثيرها، بل على العكس من ذلك، فهو ذهبَ من خلال الحلول الجمالية التي يمتلكها، الى أبعد من ذلك، وإكتشفَ أشكالاً جديدة وتوافقات وتناغمات لم يستعملها من قبل، وبدأ يختزل في أعماله كثيراً وبطريقة فيها خلاصة تجربته مع الرسم، بعد أن دفع التبسيط الى أقصى مدى ممكن، حين تخلى عن الألوان والفرشاة وإكتفى بإمساك المقص وتنفيذ لوحاته بقصاصات الورق الملون، ليدخل في مرحلة جديدة، قدم فيها أعمالاً تعتبر في مقدمة ابتكاراته الجمالية، بإستثمار ما متاح له من مواد ممكنة.
وفي جانب آخر من العالم، كانت الرسامة المكسيكية فريدا كالو، قد أصيبت في شبابها بحادث ترام، أدى الى كسور عديدة في ظهرها، فتدهورت صحتها كثيراً، حتى وصل الأمر في سنواتها الأخيرة الى عدم قدرتها على المشي والحركة، لترقد خلال ما تبقى لها من سنوات في سرير المرض، لكنها لم تستسلم لهذه المعاناة ولم تجعل عجزها عن المشي أو الوقوف حائلاً أمام تطلعاتها الفنية، لذا أخذت ترسم وهي ممددة على السرير، وأنجزت الكثير من أعمالها وهي مستلقية، بعد ان يُشَدُّ ظهرها بمشدات وأحزمة عريضة. كانت قسوة المرض أكبر من يحتملها إنسان لكن فريدا لم تستسلم لقدرها ومضت ترسم نفسها بطرق مختلفة، لتكون لوحاتها مرآة حقيقية لما تشعر به هذه المرأة المعذبة.
بهذه الطريقة كان الكثير من المبدعين، وبأوقاتٍ متباعدة ينجزون أعمالهم من على السرير بسبب المرض والعجز وتفاقم الظروف، كما حدث لمؤسس جماعة كوبرا الرسام الهولندي كارل آبل، الذي شاهدته قبل وفاته بفترة قصيرة يعطي تعليمات لمساعده الشاب كي يثبت قطعة من الخشب في هذا الجانب من اللوحة او يلصق هذا الكولاج في تلك الزاوية منها، لأن آبل لم يستطع الحركة في أيامه الأخيرة.
وها أنا أكتب الآن عن هؤلاء من على السرير أيضاً، حيث يُمنعُ عني الجلوس وحركتي محدودة، لكن الفرق بيني وبين هؤلاء، هو أن حالتي مؤقتة بعد أن أجريتُ عملية في ظهري، لكني مع هذا الأمر المؤقت، عشت أيضاً هذا الشعور وتحسست عملياً كيف يكون الرقاد في السرير، وحاولت أن أستفيد من هذا الوقت الذي أتطلع فيه غالباً الى السقف، وهكذا هيئت رسومات سريعة على الورق، هي في الحقيقة تحضيرات ودراسات للوحات قادمة، كذلك حاوتُ أن أقضي بعض الوقت في الكتابة، كما أكتبُ هذا العمود الآن. مع ذلك، بقيتُ أفكر ساعات طويلة باللوحات والألوان، لذا طلبتُ من زوجتي أن تدخل المرسم وتصور لي بعضاً من لوحاتي غير المكتملة، وهكذا بدأتُ أنظر الى الصور ثم أُضيف وأعدّل في ذهني بعض الخطوط والمساحات، أغير شيئاً هنا وأضيفُ تناغمات جديدة هناك، أفعل ذلك بإنتظار الإمساك بلوحاتي في الأيام القريبة القادمة، لأضع ما في ذهني على قماشات الرسم. أعيشُ هذه الحالة الآن وأنا أستعيد ما فكر به الرسام الساحر مودلياني، تحت وطأة شعوره بعدم تقدير الناس الكافي لأعماله، حيث فكر بالتوقف لبعض الوقت عن الرسم، وحين استنكر احد اصدقائه ذلك اجابه مودلياني (ما جدوى رسم لوحات على القماش، ثم لا تُثير إهتمام الناس ولا يشتريها أحد)، ثم أردفَ ( وربما سأفكر برسم اللوحات و البورتريهات في ذهني فقط، كي لا أتكبد ثمن مواد الرسم).
يحاول المبدع في كل الظروف والأحوال، أن يجد حلوله المناسبة للمضي مع أعماله، ويمارس الطريقة التي تتلائم مع وضعه الصحي والنفسي أو حتى مع مزاجية اللحظة أحياناً، كما كان يفعل كاتب قصص الأطفال الدنماركي هانس أندرسن، الذي كان يكتب وهو ممدد على السرير وغالباً ما يغفو وسط أوراقه المبعثرة، فيضطر دائماً أن يترك قرب السرير، ورقة خاصة لصاحبة البيت الذي يسكنه، كتبَ عليها (قد أبدو ميتاً، لكني لست كذلك).