TOP

جريدة المدى > عام > الزَّمن الحسِّيُّ ونزعة الشَّرِّ في براءتها الأولى

الزَّمن الحسِّيُّ ونزعة الشَّرِّ في براءتها الأولى

نشر في: 20 نوفمبر, 2021: 11:20 م

سارة سْليم

كثيرًا ما يبدو لي أنَّ بعض القرَّاء لا يبحثون عن روايةٍ بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى، بقدر ما يبحثون عن حكاياتٍ تشبه واقعهم، يقرؤونها لمجرَّد المتعة، ولكنَّ مفهوم الرِّواية،

هذا الفنُّ الذي أوجد لنفسه مكانًا في عالمنا هذا كي يخفِّف من وطأة أسئلة الحياة ومن عبء ما يمرُّ بنا من أزمات، هو في رأيي أكبر من أن يُختزَل في حكاية، فالرِّواية نسيجٌ متكاملٌ لا يخضع لمتطلَّبات الواقع بقدر ما يخضع لمنطق الأدب الخاصِّ، ومنطق الرِّواية يكسر كلَّ الأفكار السَّابقة التي يأتي القارئ متسلِّحًا بها من واقعه، ومن هنا فإنَّ قارئًا كهذا حين يجد في العمل شيئًا لا يتوافق وأفكاره تلك، قد يعتريه نفورٌ منه. يقول بيتر هاندكه: «الأدب يعنيني ككاتبٍ وكقارئٍ على حدٍّ سواء. إنَّه أعمق ما يمكن أن نعيشه. هو لا يغيِّر الحياة، بل يوقظها، وبذلك يغيِّر حياتنا. يغيِّرنا نحن».

ربَّما كان مدخلًا طويلًا للحديث عن روايةٍ مختلفةٍ، بسردٍ مختلفٍ، وبمشاهد سورياليَّةٍ تعيدنا إلى إيطاليا في سبعينيَّات القرن الماضي. إنَّها رواية «الزَّمن الحسِّي» للرِّوائيِّ الإيطاليِّ جورجو فاستا الصَّادرة عن (منشورات المتوسِّط، إيطاليا، 2020). روايةٌ تجتمع فيها القسوة واليوتوبيا ونزعة الشَّرِّ في براءتها الأولى في مواقف حياتيَّةٍ غير متوقَّعة. تدور أحداث الرِّواية في صقلِّية وتحديدًا في باليرمو، عندما استفاقت هذه الأخيرة على حادثة خطف ومقتل رئيس الوزراء السَّابق ألدو مورو من قِبَل الألوية الحُمر. والفريد في الأمر أنَّ رواة الأحداث هم ثلاثة أولادٍ في سنِّ الحادية عشرة يبتكرون لأنفسهم أسماءً غريبةً ولغةً خاصَّةً للحوار فيما بينهم، بوعيٍ ذاتيٍّ يتجاوز سنَّهم، فهم يمتلكون قدراتٍ تخريبيَّةً تتجاوز فكر الأولاد إلى الخبث والمكر السِّياسيِّ الذي يسمُ تفكير الكبار الذين فهموا الدَّرك الأسفل من كلِّ قذارات الحياة.

يعيد أبطال «الزَّمن الحسِّي» إلى الأذهان بطل رواية «الحارس في الحقل في الشُّوفان» و«الأمير الصَّغير»، وإن اختلفت المواضيع. غير أنَّ إعطاء مهمَّة السَّرد لأطفالٍ بهذه السِّنِّ لم يأت في رأيي من فراغٍ، بل له غايته في تغيير نظرتنا إلى الأشياء، فالكاتب يمنحهم تلك الصِّفات ليُظهر كيف يمكن للبراءة أن تؤسِّس إمَّا للشَّرِّ وإمَّا للخير في أولى مراحل التَّفكير التي تقود إلى النُّضج. يقول جورج أورويل: «لعلَّ الكثيرين ممَّن يرون أنَّهم على درجةٍ من الثَّقافة والمعرفة يحملون على مدى حياتهم خلفيَّةً واسعةً اكتسبوها في طفولتهم».

لقد منحهم أصوات الكبار للتَّحدُّث بلغتهم والتَّعبير عن كلِّ أفكارهم وآرائهم وثوراتهم ونقمتهم على كلِّ ما كان يحدث في إيطاليا في ذلك الوقت من ظروفٍ ووقائع بائسةٍ لا يمكن احتمالها: «إيطاليا حقًّا فاترةٌ وعاجزةٌ كلِّيَّةً عن تحمُّل مسؤوليَّتها عن المأساة. إنَّها قادرةٌ فقط على خلق المأساة، ولكنَّها ما تلبث أن تحوِّلها إلى ملهاة».

كثَّف جورجو فاستا الرَّمزيَّات في الرِّواية، فهو يستخدمها بشكلٍ روائيٍّ مبهرٍ، خاصَّةً عند نقده للسُّلطة. نقرأ في الرِّواية: «في الوقت الحاضر، السُّلطة في إيطاليا كتلةٌ خامدة الطَّاقة هدفها الوحيد أن تبقى على قيد الحياة». ونقرأ في وصفه الرَّغبة: «الرَّغبة هي رأس المثلَّث، والانصراف والابتغاء هما الزَّاويتان الأخريان».

كما أنَّ للرِّواية فلسفتها الوجوديَّة الخاصَّة. نقرأ: «جسدانا لم يعودا موجودَين وهما الآن شيءٌ آخر. إحدى قدميكِ حجَرٌ، أنفي رملٌ، أُذُناكِ تُفَّاحتان، وإحدى عينيَّ قنفذُ بحرٍ في قاع المحيط. فمُكِ، الآنَ، رِباطٌ رسغيٌّ في يدِ رجُل، ورئتاي قلمُ رصاص. المادَّةُ تتحوَّل ونحن نتحوَّل معها. دونما إدراكٍ، تلتقطُ يدُ الرَّجُل التي أنتِ فيها قلمَ الرَّصاص الذي أنا فيه وتكتبُ كلماتٍ وكلماتٍ، ونبقى نحن حيَّين في الحركةِ وفي الكتابة».

الخطأ في رواية «الزَّمن الحسِّي» يصبح أمرًا قابلًا للتَّفاوض، فكلُّ ما يمكن وصفه وفقًا لمسلَّماتٍ معيَّنةٍ يمكن أن يؤدِّي إلى الصَّواب، بل في أغلب الأحيان نكون في حاجَّةٍ ماسَّةٍ إلى الخطأ كي نتعلَّم: «أردت أن أفعل شيئًا يراه الآخرون خاطئًا، بينما كنت أراه أنا في تلك اللَّحظة صحيحًا. لا، ليس هذا بالضَّبط، ليس لأنَّني كنت أراه صحيحًا: لقد كنت ببساطةٍ في حاجةٍ إليه».

لرواية «الزَّمن الحسِّي» إذن صوتها الخاصُّ والفريد في نقل واقع فترةٍ عصيبةٍ مرَّت بها إيطاليا آنذاك. كما أنَّ التَّرجمة الجيِّدة رسَّخت للنَّصِّ صلابته وهذا ليس بغريبٍ على ترجمات «أمارجي» الذي يتعامل مع النِّصِّ بحساسيَّة الشَّاعر وبحرص المترجم وتمكُّنه.

إنَّ لغة جورجو فاستا الطَّاعنة في التَّوريات والرُّموز لا تُقرأ ولا تُستوعَب على عُجالة. إنَّها لغةٌ تتجاوز الكلمات إلى المدلولات، وهي فلسفته الخاصَّة في فهم الحياة والكون. يقول: «فالنَّحل يقضي وقته في الطَّيران، مركبًّا الرُّموز حينًا، وفاكًّا إيَّاها حينًا آخر. نحن ننظر إلى النَّحل ولا نفهم شيئًا، لا نرى سوى نقاطٍ صفراء تتحرَّك، ولكن إن استطعنا قراءة الخطوط غير المرئيَّة التي يرسمها، علمنا ما يقوله بعضه لبعض».

سيقرأ بعض القرَّاء «الزَّمن الحسِّي» كحكايةٍ معقَّدة، وبعضهم سيقرأها بحثًا عن أساليب جديدةٍ في الكتابة، وهناك حتمًا من سيغريه أسلوب فاستا، وأنا على يقينٍ من أنَّ القارئ المتعمِّق والمتأنِّي سيستخلص الموقف الإنسانيَّ المتواري تحت طبقاتٍ من القسوة وسينتبه إلى أسئلة الوجود والكينونة التي يطرحها الكاتب في هذه الرِّواية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
عام

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

علي بدرفي مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram