لطفية الدليمي
كم هو عجيبٌ أمرُ شهادة الـدكتوراه ! هذه القصاصة المرقومة بحروف Ph.D : دكتوراه الفلسفة في الحقل العلمي الذي تُمنَحُ فيه . ربما لن أحيد عن الصواب لو قلتُ أنّ هذه القصاصة هي أكثر مايجري وراءه البعض ويلهثون من أجله طوال العمر ؛ لكن شتان مابين لهاث ولهاث .
فرقٌ كبير بين من تأتيه هذه الـ Ph.D تتويجاً لشغف مدفوع بحلم بزغ في عمر الصبا كما حصل مع البروفيسور مانفريد شتاينر ، وبين جمهرة متبطّلين يحصلون على دكتوراه مزيفة يريدون بها إشباع الثقب الأسود القابع في أعماقهم طمعا في وجاهة اجتماعية وعلمية مدّعاة يظنونها سترفع من شأنهم وتموّه جهالتهم ، فإذا اقترن الأمر بشهوة المال وموت الضمير والقبول بكل أباطيل الزيف والخداع ،نجدهم يستولون على مواقع لايستحقونها وهم ليسوا جديرون بها . يختزل هؤلاء الـ Ph.D في حرف دال متبوع بنقطة، ويطربون لسماع أسمائهم مسبوقة بها وكأنها جواز دخولهم فردوسا مخصصا لهم و محرما على سواهم.
تابعتُ هذه الأيام حكاية البروفيسور مانفرد شتاينر Manfred Steiner ، المواطن النمساوي – الأمريكي الذي سيحتفلُ بعد بضعة أسابيع بعيد ميلاده التسعين ، وسيكون لهذه الإحتفالية طعمُ خاص فقد أدرج إسم شتاينر في موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأكبر شخص حصل على الدكتوراه الثانية وهو بهذا العمر .
المثيرُ في حياة شتاينر أنه ظلّ مشغوفاً كلّ حياته المهنية بالعمل على تحقيق حلمه : أن يكون فيزيائياً . أنهى شتاينر دراسته الثانوية في فيينا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ونصحه حينئذ عمه وأمه أن لايغامر بدراسة الفيزياء لأنها قد تكون توجهاً مهنياً بعيداً عن متطلبات أوربا عقب نهاية الحرب . كان الطب هو مانصحاه به ؛ فلم يخذلهما، وفي الوقت ذاته لم يخذل حلمه ويتركه ينزوي في قاع النسيان . درس شتاينر الطب وحصل على شهادة M.D. ، ثمّ هاجر إلى الولايات المتحدة ودرس في جامعات عدّة حتى حصل على شهادة الدكتوراه الأولى في حقل الكيمياء الحيوية، وعمل في الوقت ذاته أستاذاً لعلم أمراض الدم Hematology في جامعة براون . تقاعد شتاينر من عمله عام 2000 وهو في سن السبعين ، وهنا بدأ يعمل على تحقيق حلمه القديم الذي لم يطوِهِ النسيان ؛ فحضر دروس فيزياء أولية ومتقدّمة في معهد MIT الشهير في مدينة بوستن ، ثم نقل دراساته إلى جامعته القديمة، جامعة براون . توّج شتاينر حلمه بالحصول على دكتوراه في الفيزياء النظرية قبل بضعة أسابيع . كان شتاينر يخطط أول الأمر للحصول على دكتوراه في الفيزياء النووية ؛ لكنّه فضّل الفيزياء النظرية آخر الأمر لأنه لم يشأ ان يستخدم في دراسته أكثر من عقله مدعوماً بحاسوب وأقلام وأوراق . ثمة الكثير من الحديث المسهب عن عمل شتاينر في الموقع الرسمي لجامعة براون، وسأكتفي بالقول أنه عمل ينتمي لحقل البحوث الأساسية في الفيزياء .
ليس بوسع الواحد منا سوى أن يمتلئ نشوة وبهجة عند قراءة مثل هذه الأخبار التي تكشف لنا عن مدى حيوية العقل البشري وقدرته اللانهائية على الإبداع الخلاق في أي عمر بوجود الشغف ؛ لكن يبدو أنّ هناك ثلّة من المُزوّرين لاترتاح أنفسهم الخرِبة إلا بإفساد كلّ ماهو جميل في الحياة ؛ فقد شاع هذه الايام خبرٌ مخزٍ ، أنّ نحو 27 ألفا من العراقيين مابين سياسيين ونواب برلمان وغيرهم من المتنفذين حصلوا على شهادات الدكتوراه والماجستير المزوّرة من جامعات لبنانية أهلية مستغلين ظروف الجائحة الكورونية ومستترين بتبعاتها التي جعلوها حجّة لبؤس أدائهم الأكاديمي .
الأحلام الجميلة في النهاية لاتليق إلا بشرفاء الضمائر ومُحبي المعرفة، ولامكان لها في نفوس المزيّفين ومحترفي الغش والتدليس ولن تحققها الإ الأرواح الكبيرة التي تصون منابع النور في حياتنا.