طالب عبد العزيز
لعل أسوأ ما أنتجه الربيع العربي هي فسحة الحرية السالبة، التي أتيحت للتدين المتشدد المتطرف، والاسلامي منه بالذات، من خلال ضخّ القنوات التلفزيزنية الدينية لآلاف البرامج والافلام والحلقات المسلسلة واللقاءات المباشرة، التي راحت تنفث سمومها شرقا وغرباً،
بما جعل الخرافة والطلسمة والشعوذة مادة تسوّق، ويتلقاها الشباب من قليلي التعليم الى جوار المعلومة والحكمة والفكر الانساني، حتى اعتقد البعض بأنَّ الحرية لا تتقاطع مع تركيبة المجتمع ، الامر الذي وسَّع من دائرة الجهل في شرقنا، في ظل غياب شبه كامل للرقابة، فقد تركت الوسائل تلك تضخ الجهل والتخلف والفرص العريضة لممارسة ابشع دور تدميري يتعرض له مجتمعنا اليوم.
تفرج الدوائر العدلية عن المئات من مرتكبي جرائم الشرف، التي غالباً ما تعتمد تقرير الطبيب الشرعي، الذي (يقرُّ) بأنَّ القاتل إنما كان مصاباً بلوثة في عقله، وأنه تحت تأثير هذه الحالة أو تلك، ساعة اقدامه على جريمته، فيتبنى المحامي المكلف تقريب وجهات النظر مستعينا برجل الدين ربما وبكبار رجالات العشيرة والوجهاء لتسوية الامر .. وهكذا نرى تظافر أقطاب القضاء والطب والمجتمع في منح المجرم إقراراً بحقه في القتل. وهنا علينا إحصاء عدد جرائم القتل العمد التي تمكّن اصحابها من الافلات من قبضة القانون، من خلال المسوغات تلك، وشعارهم إن الله يغفر الذنوب جميعاً.
لا يمكن منع راعي الماشية من قضم عشب الحديقة العامة، ذلك لأنَّ التشريع الديني لا يتقاطع مع رعيها هنا، بل ومن المستقبح منعها، فهي حيوانات مسكينة وجدت في المكان هذا قوتها ، لذلك تعجز البلديات عن لجم هؤلاء، وها نحن نشهد الجواميس والابقار والاغنام والماعز تجوب مدننا، دونما رادع لها، بل والامر كثيرا ما يوقع موظفي البلدية في جملة المشاكل التي تنجم عن منعها. شخص مثل راعي الماشية استقى حريته من المرشد الديني، المقيم في شاشة بيته، فهو يحدثه طوال اليوم عن فهمه الخاص والمحدود للنصوص، التي ليس فيها ما يتقاطع مع ذلك، وبذلك يكون قد أجهز على النظام العام، الذي لم يستخلص من جملة النصوص تلك، إنما من طبيعة الوجود الانساني، وضروراتها، التي هي خلاصة آلاف التجارب الانسانية، والتي شرعت لتكفل الحياة بما فيها من واجبات وحقوق.
منذ ثلاثة عقود وأكثر ربما، تسربت -ومثل عفن سام- الى شوارعنا ومدننا العربية آلاف الكتب التي كتبت لأغراض معلومة وفي فترات متباعدة، وظلت حبيسة الاقبية العميقة لحجم التطرف فيها وخطورتها، وتعارضها مع أبسط قيم الحياة، لكنها باتت اليوم في متناول الشباب، ويرددها الخطباء على المنابر الموزعة في الفضائيات، وقد سلّم بتصديقها الملايين، الذين وجدوا فيها متنفساً لضغائنهم. وإلا ما معنى إرضاع الكبير ، وتفخيذ الرضيعة، ونكاح الجهاد، ومواقعة الزوجة الميتة وقتل الذميّ إباحة الغش والتزوير وغيرها التي ذهب القائلون بها الى تدعيمها بعشرات النصوص والأحاديث التي تتقاطع مع الفطرة والمروءة والعقل وقيم الانسان العليا وحقه في الحياة الكريمة. هل نجد الفرق شاسعاً بين فكرة الغزوة والدكة العشائرية؟