طالب عبد العزيز
أعود الى إدوارد الخراط كلما أحسست بغثيان من قراءة الكتب السخيفة، أعود له لأتخلص من إدران الكتابة الفجّة والقبيحة، أنجو به من الشعراء والكتاب السيئيين كلما قرات (رامة والتنين) أو (الزمن الاخر) او أيَّ عمل روائي له، هكذا، أفتح الكتاب، على أي صفحة كانت، وأقرأ، فارجع معه شاباً، في العشرين، أسير صحبة بطلي الرواية(ميخائيل ورامة) وأستحضر معهما سنواتي وفتوتي، مواقفي من الحياة، والدين، والسياسة، والسفر، وعشق الاوطان.
مع اللغة غير المحدودة واللامتوقعة عند حد معين، تسحبك موسيقى غامضة، قادمة من مجاهيل المعاجم، تحشرك بين الاسطر، فتمسي ضائعاً وما أنت بضائع، كأنك خرجت من مستحمك تواً، فتتيقن بانك غير معني بتسلسل الوقائع، ومتابعة أبطال الرواية، ونتائج ما يحدث، هناك لغة تغنيك عن السرد، وما يمكن أن يكون. "قالت له شاكيةً، متضرعة، راغبةً، ميخائيل لا تؤذني. فانهار صخر العالم، وانكسر العمود، وسقط وتراجع كل شيء".
لن تكون بحاجة الى تذكر الى أين وصلت في رامة والتنين، إبدأ من حيث انتهيت أو إنته من حيث بدأت ستشعر بأنك تقرأها لأول مرة، هناك قدرة فائقة عند الخراط على التذكر[WU1] والمحو، فهو يمنحك حرية مشاركته الكتابة والقول، مضيفاً أو مستدركاً، معه تشعر بأن التتابع هو من عمل البلداء، طريقة التقليديين في كتابة الرواية. ومعه تدرك بان أعمدة الرخام واسطوانات الحجر وصلادة المعادن وسواها مفردات تطهّر النصَّ، تبعده عن شبح الاسفاف، ومجانية اللفظ في التعبير عن لحظة اتصال جسدين طريين، خرجا تواً من معبد فرعوني، فهما يتلفتان متسائلين ما إذا أخفقا في تحقيق اللذة. اللغة عن الخراط تمنحك الحرية في اختيار مادة التطهر( التراب او الماء) هذا إذا لم نشأ القول بانَّ ما نقرأه هوالاغتسال بماء اللغة عينه، وهذا ما يجعلها ممكنة في أبعد منازل التعفف وأكثرها استحالةً.
"رقد صامتاً، مغلقا، برهةً، ثم قام وجلس أمام النافذة. شجرتها الشتوية بلا أزهار،والغرفة حولهما معادية، ما زال شق قصير طولي من النافذة مفتوحاً على الهواء البارد".
القدرة الفائقة على إدامة السرد لا تتأتى من الحدث عن الخراط، على خلاف القاعدة العامة في كتابة الرواية، حيث تكون الوقائع مادة اولى، ويبذل كتابها الجهود في اختلاق عناصر التشويق والمفاجاة، في حرفة يدرك القارئ أسرارها المبيتة، تلك التي لا نجدها عنده، فهو يعتمد اللغة التي يستخلصها من علاقة اثنين عاشقين، يحيطهما بينابيع من الرؤى والاخيلة، هي مما نألفه ولا نستغربه، ولا نشعر معه بفبركة ما، او استعراض مهارات كتابية. لكننا، ندرك معه المعاني الكلية للحب، فنبحث بين سطوره عمّا ضاع من أيامنا، في محاولة للتخلص مما علق بارواحنا في رحلة البحث عن معاني الحياة والوجود الإنساني فيها.
في الوقت الذي ذهب فيه كتاب الرواية الى تقصي قبح السلوك الانساني، ومعرفة آلات القتل والتعذيب، ومفردات البغضاء والكراهية، واوصاف الدم والاختناق وو ذهب الخراط للملمة مفردات الحب والعشق والتعلق بالاخر الحبيب:" عيناك يا رامة طائران سقطا وليس في يدي أن اخلصهما من الشرك" هو يبتسم لمجرد أنها كانت معه، وتركت قهوتها تبرد، لغة لا تملُّ، ولا تني تنشطر باتجاهات ملكوتية، تملا فضاء الغرفة حيث تجلس عطراً ومحبة وتسامحاً، هذا التصالح الذي تبدأ به الرواية ولا تنتهي به، فلا بدايات صادمة ولا نهايات معلومة ولا موجبات سردية.