لطفية الدليمي
تنبؤات متصارعة
ثمة قناعة سائدة بأنّ تنبؤات مابعد حصول المتفرّدة التقنية غير ذات شأن تقريباً ؛ لكنّ هذه القناعة لاتمنعُ البعض من الإتيان بتنبؤات مربكة للعقل ،
ويمكن للمرء – متى ماشاء – العثور على مجموعة واسعة من التنبؤات المتضادة في الأدبيات الخاصة بمستقبل الذكاء الإصطناعي . سأوردُ أدناه بعضاً من هذه التنبؤات .
يمكن تصنيف الميّالين إلى الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري في فريقيْن : فريق المتشائمين ( الذين يتبعون فينغ ) ، وفريق المتفائلين ( الذين يتبعون كيرزويل ) . يتفق الفريقان على حتمية حصول الإنتقالة من الذكاء الإصطناعي العام إلى الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري قبل نهاية هذا القرن ؛ لكنهم يختلفون في مدى الخطورة التي سيكون عليها الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري .
دعونا نتناول مثالاً في هذا الشأن : يتنبّأ البعض بأنّ الروبوتات الشريرة ستفعل كلّ مابوسعها للإطاحة بالآمال البشرية بل وحتى تهديد الحيوات البشرية ( تلك هي الثيمة السائدة في روايات الخيال العلمي الشائعة وكذلك أفلام هوليوود ذات النبرة الدرامية المفرطة ) ، وهنا تكون فكرة ( فصل الروبوت عن مصدر الطاقة ) غير فاعلة لأنّ تلك الروبوتات التي ستعتمد على الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري ستكون أكثر حصافة من أن تترك هذا الأمر من غير أن تجعله في عداد المستحيلات !
يجادلُ آخرون أنّ منظومات الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري لن يكون لها محتوى مؤذٍ للبشر ؛ لكنها مع هذا تظلُّ ذات خطر عظيم في كلّ الأحوال . نحنُ – البشر العاقلين – لن نزرع كراهية البشر في هذه المنظومات في بداية الأمر ، وليس ثمة من سبب يسوّغُ تطوير هذه المنظومات كراهية تجاهنا – نحن البشر - ؛ لكنها ستكون غير مهتمة بأمرنا تماماً مثلما نفعل نحن تجاه الأنواع الحية غير البشرية ؛ لكنّ عدم إهتمامهم هذا قد ينقلبُ عداوة مدمّرة لنا إذا ماتعارضت رغباتنا مع أهداف تلك الآلات فائقة الذكاء ، وهنا سيصبحُ الكائن البشري العاقل Homo Sapiens أقرب إلى طائر منقرض .
هل تنجحُ سياسة الإحتواء ؟
يتحدّثُ فريقٌ عن ستراتيجية عامة يرون فيها مقاربة مثلى في التعامل مع التهديدات الوجودية للمتفردة التقنية القادمة مع منظومات الذكاء الإصطناعي الفائق ، ويقصدون بهذا ستراتيجية الإحتواء Strategy of Containment . بموجب هذه الستراتيجية يتمّ منع منظومات الذكاء الإصطناعي الفائق من إتخاذ أفعال مؤثرة في العالم المادي على الرغم من إمكانية هذه المنظومات تبادل المؤثرات الحسية مع العالم . يرى بعض الباحثين أنّ استخدام هذه الآلات سينحصرُ في الإجابة على أسئلتنا ( يطلق الفيلسوف الأكسفوردي والباحث العالمي في الذكاء الإصطناعي نِك بوستروم( 1 ) توصيف الحكيم Oracle على مثل هذه الآلات في دلالة واضحة على دور الحكمة المشرقية المسالمة ) ؛ لكن علينا أن لا نتناسى حقيقة أنّ العالم يحتوي على شبكة تواصل عالمية ( إنترنت ) ، وأنّ الآلات فائقة الذكاء قد تحدِثُ تغيرات غير مباشرة في هذه الشبكة عبر المساهمة بإضافة محتويات ذات أشكال مختلفة ( حقائق ، بيانات ، أخبار كاذبة ، فايروسات حاسوبية ،،،، إلخ ) .
تتنبأ جماعة أخرى من فريق الرؤية التشاؤمية للمتفردة التقنية بأنّ الآلات فائقة الذكاء قد تستخدمنا لأداء بعض الأعمال " القذرة " لخدمتها حتى لو جاءت هذه الأعمال مخالفة للمصالح البشرية . يسخرُ أعضاء هذا الفريق من إمكانية الجنس البشري على " إحتواء " الآلات فائقة الذكاء عبر ستراتيجية عزلها عن العالم المادي ؛ إذ أنهم يعتقدون بإمكانية هذه الآلات على إستخدام الرشوة أو التهديد تجاه الشخص الذي تتعامل معه وإرغامه على أداء الأعمال التي تعجز عن أدائها بشكل مباشر .
الآلات فائقة الذكاء وعلم النفس البشري
يسود قلق بين جماعات كثيرة من مطوّري تقنيات الذكاء الإصطناعي مفاده أنّ منظومات الذكاء الإصطناعي الفائق ستتعلّمُ الكثير مع الزمن عن كلّ مايخصُّ علم النفس البشري إلى حدّ يؤهلها لمعرفة أي الرشاوى تؤثر في البشر ، وأيّ التهديدات الجسدية تؤثر فيهم أكثر من سواها ، فضلاً عن معرفة أي الأنماط البشرية أكثر وهناً من غيرها بما يجعلها تقبلُ المؤثرات الآلاتية على اختلاف أنواعها . قد يُبدي البعض إعتراضاً يطعنُ بمصداقية هذا القلق ويعدّهُ مُنحرفاً غاية الإنحراف عمّا يمكن أن يحدث ، وحجّتهم في ذلك أننا نتحدّثُ عن آلات بلغت مبلغ الروائي الأمريكي وأحد كبار صنّاع الحداثة الروائية هنري جيمس في معرفة خفايا دوافع النفس البشرية والمحرّكات المحفّزة لها ، والجواب على هذا الإعتراض واضحٌ تماماً : ليست الآلات فائقة الذكاء في حاجة إلى القدرات الفذة للروائي هنري جيمس لكي تعرف أنّ كلّ كائن بشري يمكن أن يكون واهناً – بدرجة ما - إزاء إغراء الرشوة أو التهديد الجسدي ، وأنّ الخبرة المستمدّة من البيانات الكبيرة كفيلة وحدها بتعليم الآلات فائقة الذكاء بمثل هذه الحقائق وأكثر منها .
بعضُ نبوءات كيرزويل المدهشة
تمثّلُ بعض التنبؤات المتفائلة في مقابل تلك المتشائمة تحدّياتٍ مثيرة للعقل البشري ، وربما تنبؤات كيرزويل هي الأكثر إدهاشاً بين تلك التنبؤات ، وفي مقدّمة تنبؤات كيرزويل تلك الخاصة بالعيش في بيئات محكومة بعوالم إفتراضية كاملة ، وإزالة الموت الشخصي من خارطة الوجود البشري . يرى كيرزويل أنّ الموت ( البيولوجي ) وإن كان سيستمرّ كما هو لكن سيكون من الممكن تأخيره لفترات طويلة بالإستعانة بالعلوم الحيوية المدعمة بتقنيات الذكاء الإصطناعي الفائق للذكاء البشري ؛ لكنّ لسعة الموت الجسدي ( البيولوجي ) يمكن في أقلّ تقدير لجْمها عبر حفظ الشفرات الوراثية الخاصة بالخصائص الفردية والجينوم الشخصي وكذلك محتوى الذاكرة الشخصية في حاسوب خاص . سيكون هذا الحاسوب حينئذ أقرب إلى ( بنك ) رقمي يحوي نسخة رقمية من كلّ شخص غادر الحياة بيولوجياً ، وسيكون من الممكن حينها الحديث عن الخلود الرقمي بدلاً من الخلود البيولوجي الذي سعى وراءه كلكامش في الأسطورة الرافدينية الخالدة .
تمثلُ هذه الحقيقة التي يمكن بها حفظ الهوية الرقمية للإنسان في وسيط سليكوني ( أو ربما وسيط من نوع آخر في المستقبل ) نوعاً من المعضلة الفلسفية التي نجدها منعكسة في العنوان الثانوي لكتاب كيرزويل آنف الذكر ( المتفردة قريبة ) المنشور عام 2005 ، والعنوان الثانوي هو ( عندما يتجاوز البشر البيولوجيا ) . عبّر كيرزويل في هذا الكتاب عن رؤيته الخاصة بالمتفردة التقنية القادمة والتي يمكن توصيفها أيضاً بمفردة الإنسانية الإنتقالية Transhumanism أو مابعد الإنسانية Posthumanism ، وهي إشارةٌ إلى عالمٍ يحتوي – جزئياً أو كلياً – أناساً غير بيولوجيين .
عصر السايبورغ :
إعادة تشكيل مفهوم الإنسانية
يرى علماء وبحاثة مستقبليون عديدون أنّ عصر الإنسان / السايبورغ Human / Cyborg قادم لامحالة . يمثل السايبورغ كائناً بشرياً تمّ ربط العديد من المستزرعات Implants المحوسبة بشكل مباشر في دماغه ، وكذلك العديد من المضافات الميكانيكية إلى أطرافه و/ أو أجهزته الحسية ، وبهذا الإجراء سيكون العمى والصمم شيئاً من آثار الماضي البعيد الذي أسدِلت عليه ستائر النسيان لأنّ الإشارات المرئية والسمعية سيتمّ تفسيرها عبر الحس أو اللمس ( بدلاً من العين أو الأذن ) . سينال الإدراك العقلاني البشري ( وكذلك المزاج الشخصي ) حصتيهما من التعزيز الموجّه باستخدام عقاقير مصمّمة لهذا الغرض .
إنّ بعضاً من هذه التقنيات المساعدة هي قيد الإستخدام البشري في يومنا هذه ( مثل : الأطراف الإصطناعية وأجهزة تحسين السمع ) ، ولو حصل وأن لاقت إنتشاراً واسعاً يشمل أوسع طائفة من البشر بدلاً من بعض المرضى أو المعوّقين ، كما يرى كيرزويل ، فإنّ تغيراً حاسماً سيطالُ مفهومنا السائد عن الإنسانية ؛ إذ بدلاً من أن نرى في الإضافات الميكانيكية وسائل مفيدة تحسّن عمل الجسد البشري المعطوب فستسود حالة يفهم فيها البشر أنّ هذه الإضافات هي أجزاء بشرية تختلف جوهرياً عن الطبيعة البيولوجية السائدة . سيسود أيضاً إستخدام عقاقير ذات تأثيرات نفسية Psychotropic شبيهة بتأثير المواد الطبيعية ( على سبيل المثال : تأثير الناقل العصبي المسمّى دوبامين في دماغ الإنسان ) ، وستسود حالة من القناعة الشائعة مفادها أنّ الذكاء الفائق ، والقوة المستديمة ، والجمال المحسّن للأفراد الذين حصلت هندستهم وراثياً هي خصائص " طبيعية " تماماً أقرب للممارسات البشرية اليومية ( أكل ، شرب ،،،، ) .
ثمة تحديات هائلة ستلحق الرؤية السياسية لموضوعات إشكالية مثل المساواة والديمقراطية ؛ إذ سينشأ – ربما – نوعٌ ثانوي جديد من البشر الأثرياء القادرين على إستخدام مثل هذه التقنيات المعزّزة للوجود البيولوجي ، وحينها سيكون السؤال التالي واجباً بقدر ماسيكون إشكالية كبيرة : مامعنى الحديث عن الديمقراطية والمساواة وسط بشرٍ ( سايبورغات بالأصح ) يمتلكون وسائل تعزيز الوجود البيولوجي ذاتها ؟ ثمّ أي نظام سياسي سيحكمُ هؤلاء ؟ هذه كلها أسئلة مفتوحة في مستقبل واعد بالكثير من الرؤى المتباينة .
المتفرّدة :
من التطوّر البيولوجي إلى التطوّر التقني
يمكن القول باختصار أنّ المتفرّدة التقنية القادمة تنطوي على إزاحة التطوّر البيولوجي جانباً واستبداله بتطوّر تقني . يرى كيرزويل في هذا الشأن أنّ المتفرّدة هي النتاج الأمثل للدمج العضوي الحاصل بين تفكيرنا البيولوجي ( بل وحتى وجودنا البيولوجي بكلّ تمظهراته الحيوية ) وتقنياتنا المتطوّرة – ذلك الدمج الذي سينتج عنه عالم يخلو من كلّ أشكال التمييز بين الإنسان والآلة ، وبين الواقع المادي والإفتراضي .
تمثلُ الأنسنة الإنتقالية نموذجاً متطرّفاً للكيفية التي يستطيع بها الذكاء الإصطناعي تغيير أفكارنا السائدة حول طبيعتنا البشرية . من أمثلة ذلك هو العقل الموسّع Extended Mind الذي يمكن للتقنية بموجبه ممارسة تأثير مباشر في تغييير مفهوم " العقل " عبر وسائط تقنية محدّدة ( معالجات حاسوبية مستزرعة في الدماغ مثلاً ) .
تقليل مخاطر المتفرّدة :
هل ثمّة مايمكن عمله إزاء ديستوبيا مستقبليةمحتملة ؟
كلّ إرادة فاعلة إزاء خطر وجودي تتحرّك بموجب فهم معقول لذلك الخطر ؛ لذا يجب إبتداءً حيازة فهم تقني وفلسفي للذكاء الإصطناعي والمتفرّدة التقنية المتوقّعة التي ستنشأ عنه ، ويمكن للفهم الجمعي العام أن يتحوّل إلى قوة سياسية واجتماعية فاعلة تؤثر في رسم السياسات العامة الخاصة بالذكاء الإصطناعي .
واحدةٌ من الخطوات العملية التي يمكن لنا إتخاذها اليوم هي وضعُ مواصفات مهنية وهندسية تحكم تطوير واختبار المنظومات الذكية بطريقة تكفلُ أن تتوفر في منظومات الذكاء الإصطناعي - ذات القدرة والإستقلالية الكافيتين - القدرة على مراقبة بيئتها وتحديد ماإذا كانت تعمل ضمن نطاق المحدّدات المسموح بها من قبل مصمّميها . هذا مايمكن عمله في أقلّ تقدير ؛ لكنّ الإحتمالات تبقى مفتوحة النهايات ، وليس بوسعنا التنبؤ بما يمكن أن يحصل بدقّة .
قدّم بوستروم عام 2002 مفهوم ( المخاطرة الوجوديةExistential Risk ) ، وعرّفها بأنّها " تلك الحالة التي يمكن أن تتسبّب فيها نتيجة غير مرغوب فيها في تدمير الحياة الذكية التي نشأت على الأرض ، أو بتعطيل قدرات تلك الحياة بصورة دائمية ومؤثرة " ، ووضع بوستروم قائمة بما رآه المخاطر الوجودية الأكثر تهديداً للحياة الذكية على الأرض ، وقد جاءت كلّ من التقنية النانوية ( النانوتكنولوجي ) والموضوعات المرتبطة بالذكاء الفائق على رأس تلك القائمة.
نحن لانعرف بالضبط ماالذي سيحصل ؛ لكن هناك العديد من المحدّدات المدهشة التي ستمكّننا من تقليص مدى الرؤى الضبابية التي يمكن الدفاع عنها بشأن مستقبل البشرية ومكانتنا في الكون ، وتنشأ هذه المحدّدات من مصادر متباينة ، منها : تحليل القدرات الكامنة للتقنيات المختلفة إعتماداً على عمليات المحاكاة ( النمذجة ) الفيزيائية أو الكيميائية ، التحليل الاقتصادي ، النظرية التطوّرية ، نظرية الإحتمالات ، نظرية الألعاب والتحليل الإقتصادي ، الكوسمولوجيا ( علم الكونيات ) . إنّ هذه المصادر البحثية ، وبسبب طبيعتها المعرفية المشتبكة من جهة ، وأحياناً بسبب طبيعتها التقنية من جهة أخرى فهي لاتلقى فهماً واسعاً على المستوى الجمعي ؛ لكن برغم هذا فإنّ أيّ مسعى يبتغي الشروع في دراسة معمّقة ورصينة للمترتّبات طويلة الأجل التي يمكن أن تأتي مع هذه التطويرات التقنية يتوجّب عليها - بالضرورة الحاكمة - أن تضع تلك الإعتبارات المشتبكة في حسبانها .
الهوامش
1 . نِك بوستروم Nick Bostrom ( مولود عام 1973 ) : فيلسوف بريطاني الجنسية ، سويدي المولد . يعمل أستاذاً بقسم الفلسفة في جامعة أكسفورد . يُعرَفُ عنه إهتماماته الواسعة بموضوعات متنوعة مثل : المخاطر الوجودية ، المبدأ الأنثروبي ، أخلاقيات التعزيز البشري ، مخاطر الذكاء الفائق . أسّس معهد مستقبل الإنسانية Future of Humanity التابع لجامعة أكسفورد . له كتب عديدة نالت مقروئية واسعة في كل أنحاء العالم .