طالب عبد العزيز
قبل مرضه كانت الطبيعة مادة لعشرات القصائد عند بدر شاكر السياب، التي كتبها على مراحل مختلفة في حياته، بما يحيلنا الى عالمه الذي كان هناك في غابة النخل حيث ولد .
الطبيعة عند بدر مورقة، ومعشبة، ومثمرة دائماً، وهناك وفرة في الشجر والماء والظلال، وهناك تأثيثات وتماثلات وقرائن كلها تعمل وتشترك في صوغ القصيدة، أو صوغ الحياة التي كانت له هناك، الحياة التي لم يعد منها شيءٌ قائم اليوم. نحن نستنجد بالشعر في معاينة الماضي؟ ذلك لأننا بتنا نبكي الماضي باستحضار الشعر؟
في شناشيل ابنة الجلبي يمنحنا بدر الفرصة عريضة لمعاينة طبيعة القرية حيث ولد، ويأخذنا الى الشتاء الذي كان هناك قبل أكثر من نصف قرن، فنسمع السماء وهي ترعد، ونعاين إرتعاشات السعف، ونرى البروق، وهي تزرّق وتخضرّ وتنطفئ فهو يقول ": وأرعدت السماء فرّنَ قاعُ النهر ، وارتعشت ذرى السعف / واشعلهنَّ ومضُ البرقِ أزرقَ ثم اخضرَ ثم تنطفئ/ ... / عاد منه النهر يضحكُ وهو ممتلئ " أو نقرأ :" وتحت النخل حيث تظل تمطر كلما سعفة / تراقصت الفقائع وهي تُفْجَرُ- إنه الرُّطب ../ وطوّقت المعابرُ من جذوع النخل في الامطار.." عالم مدهش بجماله ومخاوفه، مؤنس وموحش، موعد بالخير، ومنذر بالعواقب، لكنه ملموس ومحسوس وكائن ومتخيل .
هكذا، يؤرخ الشاعر المكان، يتوقف عنده العاشق، ويستعين به قارئ الأزمنة، ومستعمل الطريق التقليدي، ويدخله عابرُ الأخيلة، غير المعني بتوقف آلة الزمن، ويرتاده ناس الأمكنة المتحولة.. لكنهم سيتوقفون، ماخوذين بالمُنقلب الذي حدث، فيفزع هذا، وقد أخذته حمّى الاكتشاف، ويهرع ذاك الى الخرائط وكتب الجغرافيا متسائلين: ترى، أين ذلك كله، بل أين بعضه؟ ولماذا حدث ذلك كله؟ ففي مستهل (انشودة المطر) القصيدة الاشهر في شعرنا العربي، يطوف السياب بنا في عالم زاخر، ظليل ونديٍّ، حيث كل شيء ينبض بالحياة في غابة النخل، التي تشرب اقواسُ السحاب فيها الغيومَ، ويكركر الاطفال في عرائش الكروم، وتدغدغُ انشودةُ المطر صمتَ العصافير على الشجر، ويتثائب المساءُ والغيوم ماتزال ...
يقول سعدي يوسف: "بعد أنْ بدأتُ النشر انتبه بدر شاكر السياب الى تجربتي، فكان يسميني الشاعرَ الريفيّ. ووصفَ قصيدتي "يا سالم المرزوق" بهذه الصفة. قال أنت اعطيت اهتماماً إلى الأميرات، وجعلت للفلاحات نصيباً في صوت القصيدة". ومعلوم أن سعدي كان قد أثث لقصيدته بالنخل والسفن والاشرعة والقرية التي بسيحان جرداء النخيل وحكايات النساء اللواتي يخيفهن المطر والحب.. وظل سعدي ينشد الطبيعة الخصيبية من منفاه وبيت غربته البعيد طوال ثلاثة ارباع القرن، ولا تكاد قصيدة له تخلو من لمسه خضراء.
اليوم وقد خرجت الطبيعة من شعرنا بعد أن ذهبت غابة النخل والظلال وشبكة الانهار الى غير رجعة سنقرأ شعراً يتحدث عن شجيرات في حديقة المنزل، عن نخلة بلاستيكية في بوفيه غرفة النوم. وسيأتي عابر ازمنة جديد، يجمع القرائن فلا يعثر على شيء.