لطفية الدليمي
لايمكن الحديث عن تأريخ الكتب وطباعتها ودور الكتابة في حفظ المعارف البشرية منذ أقدم العصور من غير الاشارة إلى الأختام الأسطوانية والكتابة المسمارية في الحضارة الرافدينية؛ فقد ظهرت الاختام الاسطوانية في وقت مقارب لظهور الكتابة المسمارية نحو 3500 قبل الميلاد وكانت تحفل بأشكال الحيوانات والرموز الهندسية والنباتات،
وفي عصر فجر السلالات نحو 2900 ق.م. ظهرت على الأختام الأسطوانية نقوش كتابية لأول مرة تشير إلى مالك الختم او مالكته وأحيانًا تشير إلى المهنة، ويُعَدُّ استخدام الختم المحفور ودحرجته على لوح الطين الطري أول عملية طباعة معروفة في التأريخ؛ إذ تظهر الأشكال والكلمات بارزة على اللوح الطيني الذي يترك في الشمس ليجفّ .
بعد نحو أربعة آلاف سنة على استخدام الاختام الاسطوانية عمد الرهبان الصينيون - قبل اختراع غوتنبرغ للطباعة الحديثة – إلى نثر الحبر المصنوع بوصفات سرية خاصة على الورق باستخدام طريقة تُعرف باسم طباعة القالب أو البلوك؛ إذ تُغطى الكتل الخشبية المحفورة بالكلمات والمقاطع بالحبر وتضغط على ورق الرز، ولايزال أحد الكتب المطبوعة بهذه الطريقة، ويضم نصاً بوذياً قديماً، محفوظاً حتى اليوم منذ أن تمت طباعته في نحو عام 858 على عهد أسرة تانغ ، وحُفِظَ في كهف بالقرب من مدينة دونهوانغ بالصين ،وهو موجود اليوم في المكتبة البريطانية في لندن. استخدِمَت الكتلُ الخشبية المنحوتة في هذه الطريقة المبكرة للطباعة في اليابان وكوريا في أوائل القرن الثامن أيضاً، واستخدَمَت الطابعات الخاصة في هذه الأماكن كلاً من القطع الخشبية والمعدنية لإنتاج كتب تأريخية ودينية.
لم تكن القراءة والكتابة متاحة لعموم الناس في الشرق والغرب على حد سواء قبل ظهور الطباعة الحديثة وانتشار صناعة الكتاب والصحف؛ بل اقتصرت معرفة القراءة والكتابة غالباً على الحكماء والكهنة وبعض مستشاري الاباطرة وكُتّابهم الذين كانوا يدوّنون حوليات الملوك وأخبار انتصاراتهم .
اختصّ بعض كتبة البلاط في الشرق الأقصى بكتابة النصوص المقدسة بحبر الزعفران وخلاصات بعض الزهور التي تثبّتُ الحبر وتحولُ دون زوال اللون؛ إذ كان الزعفران ومايزال هو لون الحكمة المشرقية ورمز النار التي تحرق الشوائب، وعُدّ رمزاً للنقاء والزهد والتقشف والسعي في سبل النور، وكانت بعض الرُقى والنصوص التي يستخدمها المعالجون الروحانيون وسواهم من الكهنة تُدوّن بمزيج من الزعفران وماء الورد ليتضاعف مفعول الكلمة بالعطر المهدئ ويعيد للمريض صفاء المزاج والسكينة ويعينه على الاستنارة والتأمل بالابتعاد عما يشوش الفكر ويسبّبُ الحزن، وقد ذكرت بعض كتب الطب القديمة عن أثر الكلمة السحري في شفاء النفوس المرهقة والعقول المضطربة، ورَوَتْ قصة عن حكيم صيني يمارس العلاج الروحاني، أستُدْعي ذات يوم إلى بلاط أحد الأباطرة بعد أن عجز المطببون والمشعوذون عن شفائه من نوبات كآبته وحزنه وسوداويته، ولم تنفع معه خلطاتهم السحرية وترياقاتهم الثمينة التي طالما نجحت في علاج مرضاهم. قدّم الحكيم للامبراطور كتاباً صغيراً يضمُّ مختارات من أشعار الحكمة كتبت بالزعفران وماء الورد على ورق الرز، واشترط عليه أن يمضي أيامه وحيداً في حدائق القصر وينأى بنفسه عن مشاغل الحكم ولقاء الحاشية ويتفرغ لقراءة الكتاب، وطلب الحكيم أن توضع للامبراطور أريكة تحت أشجار الصنوبر العطرة التي ينقّي أريجها الهواء وأن تواجه جلسته بركة ازهار اللوتس المقدس وتعزف له فرقة موسيقية غير مرئية، ولم يكد يمر أسبوعان حتى أعلن البلاط عن إقامة احتفال بشفاء الامبراطور .
أدرك الإنسان منذ القدم ماللكلمات من أثر سحري في النفوس وماتشيعه الأغاني من بهجة وماتتركه تلاوة الملاحم وقصص الخليقة ونصوص الحكمة من معرفة في عقولهم؛ لكنهم أضافوا لذلك الأثر السحري أشذاء نباتية وموسيقى لتتضافر عناصر الطبيعة والفن في إبهاج الإنسان وإعادة التوازن لوجوده المضطرب .