ستار كاووش
قد تبدو كلمة (فضول) بالنسبة للكثيرين ليست لائقة أو غير محببة. لكن حين نتمعن جيداً بما يعنيه الفضول، نرى ما ينطوي عليه من إيجابيات وخطوات تقود الى مناطق جديدة وغير متوقعة. فهذه الكلمة الساحرة تكون في أحيان كثيرة بمثابة الجسر الذي يؤدي الى النجاح والتقدم والتطور،
وتقودنا الى إجابات نحن بحاجة اليها، وهنا تكون أولى خطوات التفوق وإزدهار الأفكار. الفضول هو الكلمة السحرية التي ترينا أفق المستقبل، وهو الذي يجعلنا نفتح النوافذ التي تطل على أشياء جديدة، وهو بالتأكيد أيضاً ما يجعلنا نتعلم اللغات لنكتشف الثقافات الأخرى، وبإيعاز منه نغامر لنعرف المجهول الذي يبعد عنا كثيراً ولا نراه أو نعرف عنه شيئاً. فقد أبحرت السفن في قرون مضت نحو الأفق وهي تجوب البحار والمحيطات، كان يدفعها الفضول للوصول الى أشياء ثمينة، حيث تنتظرها أراضٍ موغلة في البعد، وقد أدى ذلك الى إكتشاف جزر وقارات وأراضٍ بعيدة عن أعين البشر، وهكذا وصل كولومبس الى سواحل أمريكا ظاناً بأنه قد وصل الهند التي كان يقصدها، لكنه إصطدمَ بأرض بعيدة مترامية الأطراف، لا يعرفها العالم الذي نعيش فيه. ومثله أبحر ماجلان بسفنه الخمس بحثاً عن جزر التوابل في أندونيسيا، ورغم إن ماجلان قد قُتل وغرقت السفن، إلا واحدة هي سفينة فكتوريا، والتي كانت الوحيدة التي عادت، لكنها كانت كافية لتثبت بالدليل القاطع كروية الأرض، لأنها لَفَّت الأرض وعادت الى ذات النقطة التي انطلقت منها في إسبانيا.
الفضول هو المعلومة النائمة في مكان ما، وما علينا سوى إيقاضها، أنه المفتاح الذي ندخل من خلاله الى أبواب مغلقة وعوالم مجهولة تبدو بعيدة عنا، هو الخطوة التي نقطعها بين الشك والصواب، أنه ظل الحقيقة. هو بمثابة إنفتاح وحب للمعرفة، كأن يبدأ الأمر بحبنا لشيء ما من الخارج، ثم يأتي الفضول ويمنحنا الخطوة الأخيرة للمضي نحو جوهر هذا الشيء. ألمْ تأتي الكثير من الابتكارات واللحظات الحاسمة التي حدثت في حياتنا بسبب الفضول؟ فإن لم يتساءل نيوتن بفضول عن سبب سقوط التفاحة لتأخرت معرفتنا بقانون الجاذبية سنوات طويلة. ومثلما دفعنا الفضول لقراءة حكاية تلك التفاحة الملهمة ومعرفة أسرارها، كذلك نحن نقرأ الكتب لنتعرف على تفاصيل التاريخ والثقافة والتطور، كذلك نسافر لنكتشف المدن الجميلة ونتعلم من ثقافات الشعوب المختلفة، نترجم هذا الكتاب ونشاهد ذاك الفيلم، نتعلم هذه اللغة ونقتبس ذلك السلوك. وهكذا تصبح حياتنا مليئة بفضول التعلم والإطلاع ومعرفة ماستفضي اليه أيامنا القادمة.
حتى في رسم اللوحات يسيطر الفضول على الرسام وهو يحاول التوصل الى نتائج معينة، فأنا مثلاً، أذهبُ كل صباح الى المرسم، لمعرفة النتائج التي ستكون عليها اللوحات والرسومات غير المكتملة التي تركتها في اليوم السابق، حيث أجرب المواد وأمزج الألوان وأَدعَكُ السطوح، أغير شيئاً هنا وأعيد تفصيلة صغيرة هناك، أكرر هذا الخط وأضيء تلك المساحة لتكون النتائج في الغالب جديدة تضيء روحي والمرسم معاً.
طبيعتي الشخصية تحمل الكثير من الفضول للتعلم من كل شيء، وخاصة الناس والثقافات المختلفة التي لم أطَّلِعُ عليها جيداً، وهذا الفضول هو الذي دفعني ذات مساء -وأنا في طريق عودتي لبيتي في مدينة روتردام الهولندية- أن أدخل عبر إحدى البوابات التي كانت أصوات الموسيقى والرقص والغناء تنطلق منها، لحظتها رتبت مظهري بخفة وقفزت مثل قط الى الداخل، لأجد نفسي وسط حفلة خاصة في قاعة كبيرة، يقيمها هولنديون من أصول تعود لجزر الأنتيل، وقد تبين ذلك من سمرة وجوههم التي علاها إعياء الرقص وما تيسر من الشراب. إندمجتُ بسهولة بينهم، ولم يسألني أحد عن سبب وجودي، فقد ظن الكثيرون بأني صديق لهذه المجموعة أو ذاك الشخص، وهناك رقصت وشربت مجاناً وإحتفلت وسط موسيقى البلوز كما لم أحتفل من قبل، وفوق هذا تعرفتُ على أصدقاء جدد هناك، أخذتهم بعد الحفلة معي الى البيت، وهناك حكيت لهم كيف أني في حقيقة الأمر، لم أكن مدعواً للحفلة ولا أعرف أحداً من الحاضرين، وسط قهقهاتهم وهم يتمايلون ويضربون كفاً بكف. ليسألني أحدهم وإسمه جيفري، مستغرباً (لكن من أين أتتكَ فكرة المجيء والدخول الى الحفلة؟) فأجبته (انه الفضول ياصديقي).