طالب عبد العزيز
الرغيف شعير، والبيض بالطماطم والبقدونس، وإبريق الشاي خزف أبيض، وعلى الطاولة الخشب قفّازان من الجلد الصناعي ومنجل ومقصُّ تقليم الاشجار ، صحت به: (فَلَاحْ)وهي عبارة يُنادى بها على الفلاحين، منذ أيام ابي الخصيب، لتناول وجبة الضحى، التي يعدّها صاحبُ الارض للعاملين في بستانه، فضحك عبّاس- الرجل الذي اكتريته للعمل - لكأنني، أذكّره كل يوم بالعبارة الاثيرة لروحه، فأستحضرُ وإياه غابر الايام، التي كانت لأهلينا هنا، في الارض، التي تبدأُ بالبراضعية ولا تنتهي بباب سليمان وراس البيشة .
مرّت نسمة شمالية زرقاء باردة، فانتفض قطٌّ، لم يشأ عبور السياج الى البيت، ظلَّ، بمشيئته وحيدَ الحديقة الصغيرة، نحن في كانون الثاني، وقد حبست السماءُ غيثها، كنت أطلت النظر بوجه عبّاس، وهو يتناول وجبته، التي أعددتُها له بنفسي، فتذكرتُ ما قاله مالك بن دينار ، حين دخل المسجد فوجد الناس قد اجتمعوا، يدعون الله من صلاة الظهر الى صلاة العشاء، لم يغادروا المسجد، فقال لهم :ما بالكم؟ فقالوا: أمسكت السماءُ ماءَها، وجفّت الانهار، ونحن ندعوا الله أن يسقينا، فدخلتُ معهم، يصلّون الظهر ويدعون، والعصر ويدعون، والمغرب ويدعون، والعشاء ويدعون.. ولا تنزل من السماء قطرة.
غادر الناس المسجد ولم يستجبْ لهم. فدخل رجل اسود، افطس، أبجر، عليه خرقتان، ستر عورته بواحدة، وجعل الاخرى على عاتقه، فصلّى ركعتين، ولم يطل، ثم أنه التفت يمينا وشمالاً فلم يرَني، فرفع كفّيه الى القبلة وقال: الهي وسيدي ومولاي. حبستَ القطر عن بلادك لتؤدب عبادك، فأسلك يا حليماً ذا اناه، يا من لا يعرف خلقه إلا الجود، أنْ تسْقِهم الساعة الساعة الساعة. فما أن وضع يديه إلا وقد أظلمت السماءُ، وجاءت السحبُ من كل مكان فأمطرت كأفواه القِرب. يقول مالك فعجبتُ من الرجل، ولما خرج تبعته، وظل يسير بين الازقة والدروب حتى دخل داراً فما وجدتُ شيئاً أعلّمُ به الدار إلا الطين، فأخذت منها وجعلت على الباب علامة.
والحكاية طويلة، فالرجل عبد مملوك لأحدهم، إلا أنَّ مالكاً ذهب في اليوم الثاني الى بيته، يطلبه لخدمته من صاحبه، فينصحه الأخير بألا يشتريه، لأنه نحيل وضئيل ولا يحسن صنعةً ولعلك ستقول: غشني إن بعتك إياه.. يقول مالك: لمّا جئت به البيت سألته عن الذي فعله، فامتنع ان يكون هو، ولما الحفتُ في معرفتي قال: أعرفتني؟ فقلتُ: نعم. فقال: أتيقنتني؟ فقلت: نعم. يقول مالك: فوالله، ما التفت اليَّ بعدها، إنما خرَّ ساجداً، وأطال السجود، فانحنيت عليه اتفحصه، ثم أنني سمعته يقول: (يا صاحب السر إنَّ السرَّ قد ظهرا.. فلا أطيق حياةً بعدما اشتهرا ) ففاضت روحه من ساعتها.
أسمعتُ (عبّاس) شيئاً من الحكاية لكنها استغلقت عليه، ثم أنني سخرت من جهلي في حكايتها، وكما لو أنني لم أحدثه بشيء، أكمل فطوره، وقام الى ساقية فاجرى الماء فيها، وأتى بمنجله اعلى أجمة القصب والحلفاء التي كانت تطبق على النخلة، وانحنى على فسيل يقلبه حيث كنت انظر، وأتامله وهو يهب الارض فتوته وشغفه، واستحضرُ الرجل الذي فاضت روحه عند مالك بن دينار، في القيعة هناك، قبل ألف سنة، حيث حبس السماء قطرها عن البصرة.
جميع التعليقات 1
ام زيد
سيدي الفاضل نبينا الكريم ( ص) يقول مامنع القطر الا بذنب فهل نعي ؟