المغرب: عدنان حسين أحمد
تنافَس فيلم «الرتل» للمخرج العراقي رائد سلمان على جوائز الدورة التاسعة لمهرجان زاكورة السينمائي ولم يحالفه الحظ للظفر بإحدى جوائزه الست ولكن عدم فوزه لا يعني أنه فيلم «سيء» أو لم يستوفِ شروطه الفنية والإبداعية كاملة، فكعب أخيل هذا الفيلم يتجسّد في تناقض معلوماته، وسقوطه في فخ المبالغة والتهويل.
تكمن أهمية هذا الفيلم في ولوجه إلى فضاء عسكري كان يندرج إلى وقت قريب ضمن الموضوعات الأمنية المحظورة التي لا يمكن خرقها أو هتك أسراراها وجعلها في متناول وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة التي لا تتردد في عرضها لعامة الناس، فقد أدخلنا المخرج في غرفة عمليات طيران الجيش ومطاراته السريّة، وكيفية تسليح الطائرات المروحية باختلاف أنواعها، وتهيئة مقاتلات السيخوي، وإقلاعها من المدارج، ومعالجتها للأهداف الداعشية المعادية التي فتكت بالبلاد والعباد.
لابد من الإشارة إلى أن أحداث الفيلم تقع في يوم 28 حزيران 2016م، أمّا المكان فيمتد من الفلوجة إلى المناطق المحيطة بها من جهتي الغرب والجنوب. ينطوي عنوان الفيلم على عتبة نصيّة واضحة الدلالة. وما إن يرى المتلقي رتل السيارات المحتشدة بالعناصر الداعشية المدججة بمختلف أنواع الأسلحة حتى يفهم عنوان الفيلم وثيمته، فهؤلاء ليسوا مدنيين نازحين من مناطق الفلوجة، وإنما هم عناصر داعشية مجرمة تنوي الهجوم على مدينة كربلاء والاستيلاء عليها. وقد تبنّى طيران الجيش وجانب من القوة الجوية مهمة التصدي لهذا الرتل وقصف عجلاته، ومعالجة عناصره الإجرامية، ومطاردة فلوله المنهزمة في النِخيب والكيلو 106في الصحراء الغربية لمحافظة الأنبار.
يعتمد الفيلم على تقنية «الرؤوس المتكلمة»، فهناك 11 ضابطًا عسكريا يتحدثون على مدار الفيلم الذي بلغت مدته 28 دقيقة بينهم قائد القوة الجوية، وقائد طيران الجيش وبعض الضباط المنتسبين إلى عمليات طيران الجيش. كما يعتمد المخرج على تقنية التعليق أو الـ «فويس أوفر» خصوصًا في مفتتح الفيلم وخاتمته، وقد استعمل المخرج هذه التقنية بشكل منطقي دقيق حيث مهّد للمُشاهدين متابعة السردية البصرية للفيلم بواسطة هذه التوطئة الكلامية التي قال فيها:»بعد الهزيمة الكبيرة التي مُنيت بها عصابات داعش الإجرامية في الفلوجة حاولوا رصّ صفوفهم للبحث عن منفذ جديد يُعيد لهم ماء الوجه فكان لفرسان الجيش . . . الكلمة الفصل». ثم تربطنا هذه المقدمة الاستهلالية بأحداث الفيلم والقصة التي كتبها المخرج بنفسه مُذكرًا إيانا بزمان الفيلم ومكانه حيث أقلعت طائرة الـ «سيسنا كرافان» في الساعة الحادية عشرة من صبيحة 28 حزيران 2016م بواجب اعتيادي من قاعدة محمد علاء الجوية لاستطلاع مناطق شرق وجنوب الفلوجة فاكتشف الطيار تجمعات كبيرة في منطقة «ألبو عيسى» خارج الفلوجة تتحرّك بشكل غير طبيعي فأبلغ القاعدة بعد التأكد من عدم تسلّحهم أو حملهم أي عتاد أو ذخيرة حيّة.
ومع أنّ الجهود التي بذلها المخرج رائد سلمان كانت كبيرة جدًا في إنجاز هذا الفيلم إلاّ أنّ نقطة ضعفه الوحيدة تتمثّل في تضارب المعلومات وتهويل النتائج، والمبالغة في خسائر العدو، فعلي مجيد، آمر السرب الثالث في القوة الجوية يقول:»عثرنا على 150 أو 200 سيارة متجمِّعة في نفس المكان، وكانوا رجالاً مدنيين وليس بينهم نساء الأمر الذي دفعنا للشكّ بأنهم نازحون من منطقة الفلوجة لكن تحليل مديرية الاستخبارات الجوية توصّل إلى أنّ هؤلاء جميعم ينتمون إلى عصابات داعش الإجرامية». بينما يقول الفريق أول الركن حامد المالكي، قائد طيران الجيش عن عدد سيارات هذا الرتل المخيف هو أكثر من 1000 سيارة ولديهم كافة الأسلحة التي تضم 37 ملم، وأحاديات، وهاونات، وعبوات ناسفة، و 20ملم و 30 ملم. وحينما بدأ هذا الرتل العملاق بالتحرّك استطاعت طائرة السيسنا كرافان معالجة أول هدف في الساعة 12,37. أمّا الفريق أول الركن أنور حمه أمين، قائد القوة الجوية فقد كان مهنيًا ومنطقيًا في تحديد خسائر العدو حيث قال:”تمّ توجيه طائرات السيسنا كرافان التي كانت تحمل صواريخ هيل فاير وتمكنا من ضرب رأس الرتل وتدمير حوالي ثماني عجلات سبّبت صدمة كبيرة لقادته، كما وجّه إخواننا في طيران الجيش أيضًا ضربات قوية لهذا الرتل”. ولو انتقلنا إلى مدير استخبارات طيران الجيش العميد حميد مزهر الذي استمد معلومته من أحد الطيارين المكلفين بواجب ضرب الرتل الداعشي حيث يقول:”إن الرتل يبلغ طوله قرابة 10 كم لكن مدى الرؤية ضعيف جدًا ويحول دون معالجة الهدف بدقة متناهية”.
وسوف يتصل هذا العميد بقيادات الحشد الشعبي التابعة لفرقة العبّاس، وكتائب حزب الله، والعصائب ليشكِّلوا خط صدّ للدفاع عن مدينة كربلاء إذا لم يفلح طيران الجيش والقوة الجوية في إيقافهم وكسر شوكتهم. يعود حامد المالكي ليروي لنا الطريقة التي حشّد بها الطائرات فهو يمتلك سبع طائرات في مطار الحبانية كما أُرسلت إليه 27 طائرة من معسكر التاجي ليصبح العدد 34 طائرة حيث بدأت التشكيلات تستهدف بداية الرتل وووسطه ونهايته. كما اشتركت طائرات الـ 128، أو صيّاد الليل المعروفة بدقتها والأسلحة الفتاكة التي تحملها، بالإضافة إلى طائرات أخرى مثل الـ 35، وطائرات البيل واليورو والـ 117 المتوسطة، وبلغ عدد الطلعات 86 طلعة. وبحسب حامد المالكي فإنهم استطاعو ضرب 300 سيارة، وحينما انسحب بعض السيارات خارج المدى طلبوا مساعدة القوة الجوية كي تلاحقهم وتدمر أكبر قدر ممكن من قوتهم البشرية والتسليحية حيث قامت طائرات السيخوي بملاحقتهم وتدمير قرابة 85 سيارة.
استعمل المخرج تقنية الفويس أوفر ثلاث مرات في هذا الفيلم. وفي المرة الثانية كنا نسمع المعلّق يقول:”كان لعنصر المباغتة، وكثافة نيران الطيارين الأبطال، ودقّة المعالجة الوقع الأكبر على مجرمي داعش رغم كثرة عددهم، وشدّة تسليحهم مما أفقدَ ذلك الرتل الإرهابي الكبير توازنه فتشتتوا في الصحراء”.
يؤكد قائد طيران الجيش بأن طيّاري القاعدة لم يغمض لهم جفن لدقيقة واحدة، كما لم يخلُ الجو من الطيران حيث طاردوا الدواعش المهزومين إلى غرب كربلاء بمسافة 140 كم وصولاً إلى النِخيب والكيلو 160 وتدمير ما تبقى من عجلاتهم وقتل أفرادهم الذين اختبأوا في الآبار الإرتوازية بمعدل 20 أو 30 شخص في كل بئر كما يذهب أحمد عودة، آمر جناح الطيران غير أن حامد المالكي، قائد طيران الجيش يعود ثانية ليقول:”وجدنا في البئر الإرتوازي الأول أكثر من 150 فردًا من عصابات داعش، وفي البئر الآخرى بحدود 60 إلى 70 داعشيًا قتلناهم جميعًا. وأعتقد أن الضربتين سببتا انهيارًا كاملاً لمعنوياتهم وهروبًا جماعيًا لقياداتهم”. وثمة مبالغة واضحة وتهويل كبير للأرقام التي ذكرها السيد قائد طيران الجيش.
ثمة تواصل على مستوى القادة العسكريين الكبار والمرجعية الدينية التي وصفت ليلة القدر بأنها ليلة نصر إذ صادفت في نفس ليلة الهجوم على الرتل الداعشي وتشتيته في الصحراء الغربية للأنبار.
اختار المخرج رائد سلمان التعليق الأخير كي يكون خاتمة لهذا الفيلم الوثائقي حيث جاء على لسان المعلّق أنّ هذه المعركة كانت “ملحمة قلّ نظيرها. سلاحنا فيها وعلى الدوام إرادتنا وقدرتنا وشجاعتنا. بسواعد أبطال سلاح طيران الجيش والقوة الجوية آمنة أرض العراق وسمائه، والرحمة والسؤدد لمن رسم أيقونة النصر بالدم الطهور، شهداؤنا خالدون في جنان الفردوس”. يتناول هذا الفيلم قصة الهجوم المرتقب الذي سيشّنه الدواعش على مدينة كربلاء لكن طيران الجيش والقوة الجوية قد أحبطا هذا الهجوم وقبراهُ في مهده، ولاحَقا فلوله في الصحراء الغربية لمحافظة الأنبار. هذا هو العمود الفقري لقصة هذا الفيلم وثيمته الرئيسية التي انبنى عليها الهيكل المعماري للفيلم الوثائقي.
كان على المخرج رائد سلمان أن ينبّه المتحدثين على ضرورة تطابق الأرقام، أو تقاربها في الأقلّ إن لم يتوفر عنصر الدِقة. وكان عليه استدارك ذلك الأمر بإعادة تصوير بعض المًشاهد “التهويلية” بهدف تحقيق التطابق والتناغم الذي يلغي مثل هذه الأخطاء الجسيمة التي تقوّض مصداقية الفيلم خصوصًا إذا كان وثائقيًا أو يحاول أن يرتقي إلى مستوى الوثيقة ويبتعد عن الخيال المجنّح الذي يجد نفسه في الفيلم الروائي وبعض الأجناس البصرية التي تتغذي من الفنتازيا وسينما اللامعقول.
جدير ذكره أنّ رائد سلمان هو مخرج ومدير تصوير أفلام وثائقية بدأ العمل بالتلفزيون سنة 1989م. أنجز عددًا من الأفلام الوثائقية نال عنها بعض الجوائز. يعمل حاليًا مخرجًا للأفلام الوثائقية في شبكة الإعلام العراقي.