لطفية الدليمي
حصيلة فكرية مثمرة تلك التي يخرج بها القارئ بعد قراءة كتاب (بماذا يؤمن من لايؤمن ؟)، وهو خلاصة مطارحات لاهوتية – ثقافية جرت وقائعها في صحيفة ايطالية بين الكاتب وعالم السيميولوجيا (أومبرتو إيكو) واللاهوتي (كارلو ماريا مارتيني). ليس بوسع المرء سوى الشعور بالاعجاب إزاء هذه الأريحية الفكرية التي تكشّفت عنها آراء الإثنين. كلٌّ منهما له آراؤه ؛ لكنه لايسعى لتسفيه الآخرين والتعامل معهم بفوقية دينية أو آيديولوجية.
أحدُ الدروس التي يخرج بها المرء من قراءة هذا الكتاب هو شيوع صورة نمطية (فلكلورية في الغالب، ومنكّهة بمنكّهات قسرية) بشأن موضعة الدين في حياتنا المعاصرة. هذا واضح في عنوان الكتاب ؛ إذ نفهم منه ضرورة وجود مايؤمن به الانسان إذا لم يكن مؤمناً دينياً تقليدياً بالمعايير المتداولة. إنّه (الظمأ الوجودي) ذلك الذي يدفع الانسان للتفكّر في وجوده : هل ثمة غاية أو قصدية في هذا الوجود ؟ هل الوجود البشري صدفة محضة أم ضرورة تطلبتها صيرورة بمواصفات محدّدة ؟ هل نحن مفاعيل تصميم ذكي للكون ؟
لطالما تفكّرتُ في حال العلماء (الرياضياتيون والفيزيائيون بخاصة) فيما يخصُّ الموضوعة الدينية ومسألة الايمان التقليدي ؛ إذ ثمّة سوء فهم كبير (مقصود في الغالب) بشأنهم. تسود لدى معظم الناس قناعة أنّ العلماء المعاصرين - والفلاسفة كذلك - ملحدون. ذلك سوء نظر سوّقت له جهاتٌ دينية ذات منازع أصولية حتى على صعيد التوجّهات السياسية، القصدُ منه إشاعة فهمٍ مبتسر، يتّسمُ بالضحالة وملامسة سطوح الظواهر دون جوهرها. لماذا ؟ لأنّ الممارسة العلمية والفلسفية تنطوي – بطبيعتها – على قدر غير يسير من الليبرالية الفكرية ومحاولة اختراق كلّ المصدّات العائقة التي تحولُ دون المساءلة النقدية واسعة النطاق لكلّ المواضعات السائدة حتى لو كانت متكئة على قناعات دينية.
لم أقرأ أبداً عن عالِمٍ كرّس حياته لتفنيد فكرة (الإله) ونفي وجوده. غالبية العلماء ترى أنّ (الإله) فكرة ميتافيزيقية لاشأن للعلم بها. العلم والدين دائرتان معرفيتان تتمايز الواحدة عن الأخرى في وسائلها الابستمولوجية وغاياتها الفلسفية. تنشأ نتائج مؤذية للعلم والدين عندما يتمّ الخلط بينهما تحت ستار أنّ العلم يدعم الدين (أو يبرهن وجود الإله على وجه التحديد). لاضرورة لإله يبرهنه العلم. الأفضلُ دوماً أن يبقى العلم والدين كلٌّ في دائرته المعرفية ضمن حدوده الخاصة.
ماذا إذن عن ريتشارد دوكنز وكتابه (وهم الإله) ؟ أليس محاولة من جانب عالم بيولوجيا تطورية لتفنيد فكرة الإله ؟ قد توحي القراءة المتعجلة بذلك ؛ لكنّه في واقع الحال يسعى لتفنيد ممارسات محدّدة لجماعات من البشر ممّن يسعون لتكريس صورة لاهوتية محدّدة عن الإله. يرى الكثير من العلماء أنّ دوكنز يكرّسُ رؤية أصولية علمية (العلموية scienticism) مقابلة للاصولية الدينية، وأنّ الأمر ليس سوى لعبة تقاتل أصوليات في نهاية المطاف.
قد نقرأ كثيراً أنّ العلماء يصرّحون بكونهم ملحدين atheist عندما يُسألون عن توجهاتهم الدينية. القراءة السايكولوجية الدقيقة التي تستبطنُ الخفايا الدفينة تخبرنا أنهم ينفرون من الصورة اللاهوتية النمطية السائدة للإله، ويميلون إلى صورة له هي أقربُ إلى رؤيا المتصوّفة والرؤيويين الكونيين، حيث الإله حق وخير وجمال ومحبة ورغبة في المساءلة والاستكشاف والمعرفة.
كم كان (آينشتاين) ذكياً وبليغاً عندما أعلن أنه يؤمن بِـ (إله سبينوزا) !
إله سبينوزا هو مايؤمن به العلماء ؛ أما من يريدُ لهم أن يؤمنوا بإله على مواصفاته ومقاساته فذلك شأنه. سيظلُّ مثل صوت صارخ في البرية، لاأحد يسمعه، وسيظلُّ أسير قناعة صخرية بأنّ العلماء ملحدون أبديون.