TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: بماذا يؤمن العلماء ؟

قناديل: بماذا يؤمن العلماء ؟

نشر في: 18 ديسمبر, 2021: 11:11 م

 لطفية الدليمي

حصيلة فكرية مثمرة تلك التي يخرج بها القارئ بعد قراءة كتاب (بماذا يؤمن من لايؤمن ؟)، وهو خلاصة مطارحات لاهوتية – ثقافية جرت وقائعها في صحيفة ايطالية بين الكاتب وعالم السيميولوجيا (أومبرتو إيكو) واللاهوتي (كارلو ماريا مارتيني). ليس بوسع المرء سوى الشعور بالاعجاب إزاء هذه الأريحية الفكرية التي تكشّفت عنها آراء الإثنين. كلٌّ منهما له آراؤه ؛ لكنه لايسعى لتسفيه الآخرين والتعامل معهم بفوقية دينية أو آيديولوجية.

أحدُ الدروس التي يخرج بها المرء من قراءة هذا الكتاب هو شيوع صورة نمطية (فلكلورية في الغالب، ومنكّهة بمنكّهات قسرية) بشأن موضعة الدين في حياتنا المعاصرة. هذا واضح في عنوان الكتاب ؛ إذ نفهم منه ضرورة وجود مايؤمن به الانسان إذا لم يكن مؤمناً دينياً تقليدياً بالمعايير المتداولة. إنّه (الظمأ الوجودي) ذلك الذي يدفع الانسان للتفكّر في وجوده : هل ثمة غاية أو قصدية في هذا الوجود ؟ هل الوجود البشري صدفة محضة أم ضرورة تطلبتها صيرورة بمواصفات محدّدة ؟ هل نحن مفاعيل تصميم ذكي للكون ؟

لطالما تفكّرتُ في حال العلماء (الرياضياتيون والفيزيائيون بخاصة) فيما يخصُّ الموضوعة الدينية ومسألة الايمان التقليدي ؛ إذ ثمّة سوء فهم كبير (مقصود في الغالب) بشأنهم. تسود لدى معظم الناس قناعة أنّ العلماء المعاصرين - والفلاسفة كذلك - ملحدون. ذلك سوء نظر سوّقت له جهاتٌ دينية ذات منازع أصولية حتى على صعيد التوجّهات السياسية، القصدُ منه إشاعة فهمٍ مبتسر، يتّسمُ بالضحالة وملامسة سطوح الظواهر دون جوهرها. لماذا ؟ لأنّ الممارسة العلمية والفلسفية تنطوي – بطبيعتها – على قدر غير يسير من الليبرالية الفكرية ومحاولة اختراق كلّ المصدّات العائقة التي تحولُ دون المساءلة النقدية واسعة النطاق لكلّ المواضعات السائدة حتى لو كانت متكئة على قناعات دينية.

لم أقرأ أبداً عن عالِمٍ كرّس حياته لتفنيد فكرة (الإله) ونفي وجوده. غالبية العلماء ترى أنّ (الإله) فكرة ميتافيزيقية لاشأن للعلم بها. العلم والدين دائرتان معرفيتان تتمايز الواحدة عن الأخرى في وسائلها الابستمولوجية وغاياتها الفلسفية. تنشأ نتائج مؤذية للعلم والدين عندما يتمّ الخلط بينهما تحت ستار أنّ العلم يدعم الدين (أو يبرهن وجود الإله على وجه التحديد). لاضرورة لإله يبرهنه العلم. الأفضلُ دوماً أن يبقى العلم والدين كلٌّ في دائرته المعرفية ضمن حدوده الخاصة.

ماذا إذن عن ريتشارد دوكنز وكتابه (وهم الإله) ؟ أليس محاولة من جانب عالم بيولوجيا تطورية لتفنيد فكرة الإله ؟ قد توحي القراءة المتعجلة بذلك ؛ لكنّه في واقع الحال يسعى لتفنيد ممارسات محدّدة لجماعات من البشر ممّن يسعون لتكريس صورة لاهوتية محدّدة عن الإله. يرى الكثير من العلماء أنّ دوكنز يكرّسُ رؤية أصولية علمية (العلموية scienticism) مقابلة للاصولية الدينية، وأنّ الأمر ليس سوى لعبة تقاتل أصوليات في نهاية المطاف.

قد نقرأ كثيراً أنّ العلماء يصرّحون بكونهم ملحدين atheist عندما يُسألون عن توجهاتهم الدينية. القراءة السايكولوجية الدقيقة التي تستبطنُ الخفايا الدفينة تخبرنا أنهم ينفرون من الصورة اللاهوتية النمطية السائدة للإله، ويميلون إلى صورة له هي أقربُ إلى رؤيا المتصوّفة والرؤيويين الكونيين، حيث الإله حق وخير وجمال ومحبة ورغبة في المساءلة والاستكشاف والمعرفة.

كم كان (آينشتاين) ذكياً وبليغاً عندما أعلن أنه يؤمن بِـ (إله سبينوزا) !

إله سبينوزا هو مايؤمن به العلماء ؛ أما من يريدُ لهم أن يؤمنوا بإله على مواصفاته ومقاساته فذلك شأنه. سيظلُّ مثل صوت صارخ في البرية، لاأحد يسمعه، وسيظلُّ أسير قناعة صخرية بأنّ العلماء ملحدون أبديون.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram