ستار كاووش
سألني صديق هولندي (ما هو شعورك وأنت تعيش بين ثقافتين هما العربية والهولندية؟ أتعيقكَ بعض التفاصيل؟ وهل هناك مقاربات بينهما؟). وأنا بدوري أعيد هنا طرح السؤال بطريقة أخرى: ما عليكَ فعلهُ، كي تمضي بسهولة ويُسر للعيش بين ثقافات تبدو مختلفة؟
هل تنسى نهائياً ثقافتك التي تربيت عليها؟ هل تضع قدماً هنا وآخر هناك؟ أم تمد ذراعيك الى ذات اليمين وذات الشمال لتغرف منهما معاً أكسير النجاح وإحراز الطموح؟ أَمِنَ السهل حقاً العيش بين ثقافتين مختلفتين وجعلهما مثل جانبي سكة قطار تمضي بك نحو أهداف حياتك؟ وكيف يمكنك تجاوز قطع الحصى الصغيرة التي تنبثق بينهما بشكل مفاجيء؟ وفي النهاية، هل تشعر فعلاً بأنك من فناني الخارج، كما يدعي البعض؟
إن ما أشعر به في واقع الأمر، هو أني لا أعيش بين ثقافتين، بل يمكنني القول بكل بساطة بأني أعيش بين ثلاث ثقافات هي العربية والهولندية والروسية. ومن هذه الثقافات الثلاث تفرعت أنهر جديدة لثقافات أخرى محاذية، ومن كل ذلك تعلمتُ الكثير ووجدتُ نفسي أمضي بيسر، بعد أن تغيرت شخصيتي بطرق مختلفة، حتى كدتُ أتغير كلياً وأنا أعومُ في هذا النهر وأنتقلُ الى تلك البحيرة، ثم أقفزُ الى ذاك البحر. إلا أني أحسستُ مع الوقت بأن هذه التغيرات التي تبرعمتْ في شجرة حياتي، ما هي إلا بذور كانت مغروسة ومخبئة في داخلي، وقد حانت ظروف تفتحها. وهذا الأمر يُذَكِّرُني في أحد وجوهه، بالإصطفاء الطبيعي الذي يحدث لبعض الحيوانات التي تبدو كأنها قد غيَّرَتْ أشكالها وتكيفت للعيش ومواجهة الحياة القاسية، لكن الكثير من هذه الحيوانات أو الكائنات -في حقيقة الأمر- لم تكن بحاجة الى تغيير أشكالها لتتخفى من بعض المخاطر وتستمر في الحياة، بل إن الطبيعة فتحت لها الطريق لأنها تحمل بعض الصفات التي تتوافق مع هذه الظروف أو تلك الحياة، وبهذا قاومتْ مخاطر المحيط لأنها تحمل الدفاعات الشخصية في الأصل كالسرعة أو القوة وغيرها. والانسان بشكل عام لديه إستعدادات لا حصر لها، لكن عليه إستثمارها بشكل جيد ومناسب.
التَغَيُّر هو أجمل ما يحدث في حياة الفرد سواء كان هذا التَغَيُّر تعلم لغة جديدة أو ممارسة تقاليد لم تخطر في البال أو حتى إختبار سلوكيات معينة في ظرف بيئي مختلف، لذا من الشجاعة أن تجد في نفسك ما يجعلك تَتَغَيَّرَ في اللحظة المناسبة، وتعيد تقليب أفكارك ومعتقداتك وما تؤمن به، وأولى بك أن تطلق ساقيك للريح وتمضي لإكتشاف هذا العالم الذي حولك. فالحدود نحن مَنْ يصنعها، والأسوار نحن الذين نبنيها والمعتقدات نحن الذين نستحدثها. وما علينا سوى القفز فوق الجدار لنرَ الجهة المقابلة. فهذا العالم لك، مثلما هو أيضاً للآخرين، هؤلاء الذين يمكنك أن تتقاسم معهم وبكل بساطة، أشياء تبدو لا يمكن المساس بها، مثل البلدان والمدن والبيوت والتقاليد وغيرها الكثير. مع ذلك، مهما أرخينا حبال الماضي كي نسهل مدها نحو المستقبل، يرجمنا البعض بتعبيرات من قبيل: هذا من عراقيي الداخل وذاك من جماعة الخارج، وكأننا أدمَنّا السجن والحواجز ولا نعرف العيش سوى خلف حدود، حتى لو كانت وهمية ومن صنع خيالنا المحلي.
أتذكر أُولى أيامي البعيدة التي عشتها في مدينة كييف، حين إستوقفني جاري العجوز روسلان على باب البناية، بعد أن لمحني أخرج دون إعتمار قبعة تحمي رأسي من البرد القارص. وقتها أمسك ذراعي قائلاً (كيف تتجرأ يابني على الخروج بدون غطاء رأس ودرجة الحرارة عشرة تحت الصفر؟! البرد هنا لا يحتمل، وإن أردتَ العيش في كييف بشكل سهل وجيد، فما عليك سوى أن تحاول أن تجد بداخلك ما يقربك للتقاليد الروسية، وتهيء نفسك لتعلم أشياء جديدة تفيدك في معيشتك. وبهذا تتفادى قسوة البرد وتنسجم مع التقاليد، لتمضي بيسر مع الحياة) ثم أردف بمكر (ولا تنسى أن تحصل على صديقة جميلة تعينك أيضاً على البرد)، وأنا بدوري مازلتُ أقَدِّر كثيراً نصيحته الثانية، كما لا يمكنني نسيان لحظة عودتي مساء اليوم ذاته، وأنا أرى تلك القلنسوة الصوفية التي تركها لي معلقة على مقبض باب شقتي الصغيرة.