TOP

جريدة المدى > عام > يوميات في حب بغداد.. سرديات عن غياب الأمكنة البغدادية

يوميات في حب بغداد.. سرديات عن غياب الأمكنة البغدادية

نشر في: 21 ديسمبر, 2021: 10:46 م

لطفية الدليمي

1999 - 2003

من الكرخ كنا نعبر جسر الشهداء، نمر على انحناءاته كأننا الريح، تحيط بنا الكائنات نصف البشرية، ثمار الحروب المتكاثرة :

متسولون وباعة ساندت تكاثرهم وفرة الرعب والألغام وحفلات النار واستفحال المجاعة ، نراهم كائنات لا أرضية : كسيحون ومبتورون وعُميٌ وعصابيون، يعرضون للبيع أحشاء بيوتهم وتاريخ الأهل، يعرضون الأثاث وثياب العرس ومهد الرضيع والثياب والمرايا. كل شيء معروض على الأرصفة مع السجائر وعلب الكولا المهربة وأقنعة الرجل الخفّاش وسوبرمان وقمصان المعونات الموشومة بتفاحة نيويورك وراية النجوم أو مزينة بأعلام بريطانية، ومعها نياشين الشجاعة المعاقة وأوسمة النصر الزائف في الحروب

أحشاء الحياة البغدادية تباع بأثمان أقلّ من نقص الحياء وأدنى من لسعة الجوع ،بغتةً تمر غمامة من النوارس البيض وتهبط الى دجلة أو تحوم فوق الجسر ثانيةً وتعيدنا الى برهة سلام وسط العدم الماحق.

سوق السراي بيت الورّاقين الذي سكنه الحزن، لا ينتمي الى هذه المتاهة. له بداية ونهاية واستقامة. المكتبات القديمة لها اسماؤها، وباعة الأحبار وباعة الشاي والورق والكتب النادرة نعرفهم بالأسماء والألقاب ونعرفهم بالعكوف على القراءة . نهاية السوق تقود من اليمين إلى شارع المتنبي والامتداد المستقيم يؤدي الى مبنى القشلة (القشلاق) العثماني بساعته الشهيرة وحدائقه وأروقته المطلة على دجلة. هل بقيت الحدائق بعد توقف ساعة القشلة ونفي الزمان؟! كنا نعبر الزمن من سوق السراي الى سوق الساعاتية. شيوخ عاكفون

على تفكيك الوقت وزحزحة الثواني في قلوب ساعات عتيقة، ماركة “جوفيال” و”لونجين” و”زينيث” و”أولما”، يستمعون من غراموفونات عتيقة الى مقامات يوسف عمر او رشيد القندرجي او سلطانة يوسف. تثار أشواقهم فيهمهمون مع المغنّين ويتمايلون برؤوسهم التي جللها البياض. الوقت ينزلق من رعشة أصابعهم وهم يبحثون بمنظار مكبّر عن خلل الوقت الذي لا يُرى بل نحسّه يهفهف كجناح كسير، في حين أن الوقت يهرب من سجن الساعات ليطوف مثل يمامة مخوّفة فوق المآذن والجسور وزوارق دجلة. لا نلتفت إلى الوقت فقد تساوت لدينا ساعة اليأس مع لحظة النجاة المستحيلة.

تتواشج في المكان نفسه، الذي له سيماء عثمانية، حرف يدوية وصناعات تكاد تندثر في هجمة الصين على تراث العالم . منذ الف سنة تتجاور الصناعات الحرَفية وتتعايش على قارعة الدهور: صنّاع الجلود المهرة الذين يُعرفون بـ”السّراجين”، يعرضون سروج الخيل المزركشة والمداسات، ويشتغلون بالمخصف على الأخفاف والأنطقة وسيور اللجم والسياط ومظلات عربات الخيول ومحافظ النقود. خيّاطو العباءات يطرّزون بخيوط الذهب سطور الترف على حواف العباءات التي من نسيج الصوف الشفّاف شبيه الموسلين الموصلي، نسيج من صنع نسّاجي النجف البارعين. بعدهم يباغتنا في دكاكين صغيرة شبّان من مجلّدي الكتب الثمينة، يضعون للكتب أعقابا مذهبة ويرسمون حروفاً من وهج وفضة، ويستخدمون الأصماغ بخلطات سحرية ورثوها من ورّاقين عباسيين لم يهملوا تدوين عناصرها ومقاديرها في المخطوطات. لم يتبقّ من هؤلاء واؤلئك سوى ظلالهم فوق الجدران التي ثقبها الرصاص.

نعبر من نفق تحت أرضي إلى متاهة الأسواق الكبيرة، وندع دجلة ونوارسه وصياديه واشباح المنتحرين من فوق جسوره وراءنا.

قلب بغداد مشطور بصدع نهري، ترى في ما تبقّى من ضفافه أشجار صفصاف وبعض سدر ونخيل وأكثر من عشرة جسور تحاول رأب الصدع بين الضفتين ، ولا تكفّ الزوارق عن محاولة مماثلة. هناك عند جرف الصدع الأبدي في الرصافة، تتخفى متاهة التجارة شبيهة أحشاء وحش أو طريق ملغز وسط غابة بشر ومال ومساومات . لا بد لنا لكي نبلغ المستنصرية من أن نجتاز المتاهة. ندخل سوقاً فيقودنا إلى تفرعات أخرى. سوق يفضي إلى آخر فآخر، وتغوينا بهرجات السلع المقلدة وأشذاء البخور، وتستفز اختلاج الرغبات فينا روائح الشواء من المطاعم الصغيرة تهيج لسعة جوع الحمّالين وحائكات المكانس وبائعات التعاويذ المدقعات. تجار مترفون وعبارات من قاموس الصفقة يساومون بها على بضاعة رخيصة من صنع الصين او إيران. الكل يحاول خداع الكل او الفوز عليه، وتنتهي الصفقة والتاجر يقسم بأسماء الله الحسنى والانبياء والشفعاء على خسارته فيها.

باعة المسابح التي من كهرمان وسندلوس وعقيق وفيروز، يعرضون بضاعتهم مع عقود الفضة والخواتم المزدانة بالاحجار من يشب وعقيق ودرر ويواقيت. على مبعدة خطوات كانت تغوينا الفضيات التي أبدعها صابئة البصرة وميسان وبغداد، يعرضون نخيلا فضيا مثقلا بأعذاق التمور، مرقشا بالمينا والفيروز، وتحت النخلة يقعي أسد بابل أو يقف إزاء النهر يحدق في زورق له شراع مرصع وملاّح يحرّك المجاذيف في لجة الزمن. يعرضون أيضا طاسات مخرّمة للحلوى، وطاسات مطوّقة بعبارات العشق تُستخدم لحمّام العروس قبل زفافها وتغتسل بماء مر على فضة مطلسمة. قلائد معززة بالمرجان والعقيق، خواتم برؤوس أسود وأساور رقيقة مضفورة بخيوط الفضة، مبرومة كأفاعٍ، عيونها ياقوت أحمر تلتف على ذراع بضة لحسناء من رصافة بغداد أو من أعظميتها. أساور الذراع يسمّونها “الزنادي”، تزدهي على الزنود الرخصة ببريق الذهب والياقوت، توقظ شهوات العاشقين عندما تطوق سواعد السيدات المنعمات ترفا وسمنة. كؤوس شاي محفورة بموتيفات من أساطير سومر أو صور لجوارٍ راقصات وعازفات. نخرج من السوق إلى شارع الرشيد وساحة الرصافي حتى نبلغ مدخل سوق الصفافير. هو سوق النحاس وصانع النحاس يسمّى صفّاراً، والصِفْر هو النحاس بالعامية العراقية. نحاس مطروق ومنقوش بأبيات من الشعر او بمشاهد بغدادية وسومرية ومجالس أنس الخلفاء، وأطباق وصوانٍ حافلة براقصات بابليات يلوحن للربة إينانا في أعالي الليل. تصمّ أسماعنا دقات مطارق الصفارين المنغمة. معزوفة دامت أكثر من الف عام في هذا السوق تخفت الآن وتتلاشى في ضجة الانفجارات. نغادر إلى سوق دانيال وسوق البزّازين. هنا كان يباع الحرير والخز والعباءات ولفاعات النساء الحريرية المنسوجة من القز بأيدي نسّاجي الكاظمية. وهؤلاء يشترون شلل الحرير المغزول من القرويات اللاتي يربّين دود القز في قرى بعقوبة وسط بساتين النخل والتوت والبرتقال، ومن تلك الخيوط العاجية اللون ينسجون فوط القز وشالات الحرير. كنا نشتري هدايانا الى أصدقائنا المغتربين من هنا: بُسُط السماوة والنجف وواسط، كل بساط له موتيفات وألوان يُعرف بها وتُجمع كلها على استخدام النسبة الذهبية للمربّع الهندسي.

لم نعد نجد الا عتمة السوق وبقايا بُسُط مقلدة ربما صنعتها الصين في مدينة كانتون. نصل الى خان جغان، حيث مجموعة من الخانات العثمانية والعباسية لمسافري طريق الحرير وتجار التوابل، ونبلغ الزقاق العباسي الذي يشمخ فيه باب المستنصرية. نستعيد أنفاسنا اللاهثة أمام روعة الباب. خشبه ساج محفور بالأرابيسك، مثمنات وتوريقات ونجوم ومربعات وأطباق نجمية. كتابات ملغزة منحوتة في الآجر فوق الباب، وتحت القوسين بخط الثلث على أرضية نباتية مزهرة مختومة باسم من شيّد المبنى “سيدنا ومولانا إمام المسلمين وخليفة رب العالمين».

المدرسة المستنصرية

كنا أنا وصديقتي الرسامة نزور المدرسة المستنصرية مرارا، ننأى بأنفسنا عن القرن الدموي ونلج اضطراب القرن السابع الهجري الى المدرسة الجامعة التي بناها المستنصر بالله العباسي سنة 631 هجرية في بغداد العباسية. أشباح المغول وروائح خيولهم تهبّ علينا من كل ثغرة ونحن نوغل في التباسنا بالزمن، وتأخذنا ريبة الخائف من زوال الوجود، والمدينة تتقوض وتذوي بطريقة غير منظورة .

نجلس في فناء المدرسة الواسع المعزول عن مدينة الرعب وأهوال الحروب والتباس المعاني ، كلٌّ منا تنطوي على أحزانها ووحشة الروح ، أكتب وترسم صديقتي تخطيطاتها بالحبر الصيني، أمامنا أحواض البنفسج تدور حول فسائل النخل وشجرة السدر الحزينة .

أقطف براعم البنفسج العطرة فيطير الشذا بي إلى عصر منصور بن الظاهر الذي لقّب نفسه المستنصر بالله خليفة الله في المسلمين، وقيل في حسن منظره وبهاء وجهه : “كأن الثريا عُلقت في جبينه وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر”. أتخيل الرجل عائما في غمامة عطر ونشوة والجواري يعزفن له أو يداعبن أهواءه حتى بزوغ الفجر .

نطوف طوافنا المعتاد في الفناء الكبير وحديقته الصغيرة التي تتوسطه ونافورته العاطلة وكأننا في حج روحاني، نجلس على درجة في الرواق الطويل الذي تزيّن سقفه المعقود مقرنصات تولد أشكالا من ظلال وتضاريس، الأروقة تفضي إلى صوامع مفردة وغرف لتلاميذ الفقه ودارسي المذاهب وطلاب الطب والفلك. أكتب ملاحظات لنصوص ، وترسم صديقتي روح المكان الذي تداولته الحروب ومعارك السلاّبين والغاصبين.

نوغل في فلك المدرسة العظيمة التي كانت تدرّس الفقه والفلك والطب والهندسة والفلسفة والصيدلة، ولها مناهج ونظام تدريس مبتكر وأساتذة أفذاذ ممن برعوا في التأليف والتصنيف والعلوم، بينهم الفيلسوف والطبيب. وكانت أول جامعة تبيح التدريس للضرير وكان الشيخ الخيلي عبد الرحمن بن عمر أول مدرّس ضرير في جامعة عالمية وكانت تخصص 62 دارسا لكل مذهب من المذاهب الأربعة يتبادلون المواقع في مسعى للتقريب بين المذاهب وتداول الأفكار والاجتهادات بين الدارسين ليحل السلام بين اهل البلاد.

الحارس وفخاخ السلطة

فخاخ السلطة تتغير أشكالها وطرائقها لكنها تبقى تتربص بنا في كل عصر، والحارس وجه واحد من وجوهها ، يرقب زياراتنا المشبوهة للمدرسة: امرأتان تعاودان الحضور بين حين وحين، لعلهما تنويان شرا او أنهما مُختلتان ، فماذا تجد هاتان المرأتان في مبنى عتيق مهجور والنساء غيرهن يرتعن في مباهج السوق ؟

الرجل شبيه المومياء يلاحقنا بنظراته وظنونه ، له رأس طائر هرم متحلل لفرط عطالة القلب ويباس الروح المكرسة لترصد الأنفاس .

للحارس في مثل هذه المواقع غِمد من الصلف يمنحه سلطة الإيقاع بمن يشاء ، أصابعه المعقوفة تغزل خرافة وجوده ، لا وظيفة له سوى اقتناص الكلمات وملاحقة الأصوات عبر الكوى والأبواب وتحويلها براهين إدانة وأدلة عن العابرين والزائرين المشبوهين ، وهو صائد صدى ، وعلى ما يشير رسوخه الزائف ، غير واع لتحلله في الفراغ التاريخي الذي يحدث صدعا بين حاضر المدينة الموغلة في العدم وبين مدرستها العريقة المتحاملة على جراحها .

الصباح ينسج تحايا الزوار النادرين مع زقزقات الطيور المعششة في زوايا السقوف. السنونو واليمام والبلابل تلوذ بأمان المدرسة من عدائية السوق ورعب المدينة ، والرجل مهموم بامتصاص الكلمات مع التبغ لترقد الابجديات في جوفه مع ذكرياته وأحزانه وشهواته المماتة. وظيفة الحارس : صدّ السؤال وقنص النوايا .

( يتبع )

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الأنواء الجوية: ارتفاع في درجات الحرارة الاسبوع الحالي

الكويت تنفي تدهور الحالة الصحية لسلمان الخالدي الذي تسلمته من العراق

ترامب: نريد 50% من ملكية تطبيق تيك توك

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
عام

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

علي بدرفي مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram