ستار كاووش
بعد إنتظار طويل، ها هو أكبر معرض للرسامة فريدا كالو يفتتح في متحف درينته شمال هولندا، وهنا لا يمكنني بطبيعة الحال، أن أُضَيِّعَ مثل هذه الفرصة النادرة لمشاهدة أعمال أشهر رسامة في العالم.
زرت المعرض وعند أول خطواتي في المتحف، إنفتح أمامي عالم فريدا الشخصي والمثير، حيث شمل المعرض كل الطابق الأول من المتحف وضمَّ بالإضافة الى لوحاتها، كل أشيائها الشخصية وملابسها وحتى علب المكياج والإكسسوارات التي كانت تستخدمها. فقد رُتِّبَ جناحاً خاصاً ضمَّ سبعة عشر فستاناً من فساتينها الأصلية التي كانت ترتديها، فساتين موشومة بالزهور ورقشات الألوان التي تعيدنا الى مناخات المكسيك في النصف الأول من القرن العشرين. كذلك إمتدت على جدران عديدة صورها الشخصية منذ طفولتها وحتى وفاتها، مع عائلتها أو صحبة حبيبها الرسام دييغو ريفيرا. وفي جهة أخرى من المتحف، خُصِّصَ جداراً -بعد أن تحول الى ما يشبه الفترينة- لعرضِ مجموعة كبيرة من الأحزمة والمشدات الجلدية الواسعة التي كانت فريدا تشدها على جسدها النحيل لمساعدتها على الوقوف بسبب آثار الكسور التي توزعت بين عظامها . بينما ضمت قاعات أخرى رسوماتها الصغيرة التي تشبه بطاقات البريد التي كانت تتسلى في إنجازها.
قضيتُ يوماً كاملاً وسط عالم فريدا وبين لوحاتها وما يعود اليها من تفاصيل نادرة. وهناك وسط قاعات المعرض عرفت إن الحياة لا تعطينا ما نريد بسهولة وعن طيب خاطر، بل علينا ان نجتهد ونتحمل العذابات وقسوة الظروف أحياناً لنحقق شيئاً يعيش بعدنا.
في هذا المعرض رأيتُ كيف تأثرت فريدا بالرسام العبقري ريفيرا، بسبب الحضور الطاغي لأعماله، وبحكم العلاقة الفريدة التي ربطتهما معاً. مع ذلك، حاولت فريدا أن تعكس عوالمها الشخصية وتقول حكايتها من خلال الألوان، إنها سيرة حياة امرأة كابدت الكثير ولم تحصل في حياتها على ما يُطَمئِنَ روحها ويشير الى عبقريتها. وقد إنعكست حياتها القاسية على كل لوحاتها، حتى بدت كأنها تكتب يومياتها من خلال الرسم.
ولدت فريدا في المكسيك (١٩٠٧-١٩٥٤) وعانت وهي بعمر ست سنوات من شلل الأطفال، ثم تعرضت في سن الثامنة عشرة الى حادث باص مريع، أدى الى كسور غير قابلة للشفاء في ظهرها وأنحاء أخرى من جسدها، لتقضي بقية حياتها مع الآلام، حتى إنها إضطرت فترة طويلة لرسم لوحاتها وهي ممددة على السرير، وهذا الإنكسار الجسدي أثر على كل حياتها وفنها ورؤيتها، لكنها مع كل ذلك إستطاعت أن ترسم في حياتها القصيرة نسبياً مائة وثلاث وأربعين لوحة، منها خمسة وخمسين لوحة عبارة عن بورتريهات شخصية لها وهي محاطة بالطيور والزهور والغابات وحتى القردة. وقد أرادت من خلال ذلك ان تنعزل عن الناس وتجد سلامها بين الطبيعة والحيوانات.
من خلال التمعن في أعمالها نرى كيف إستطاعت فريدا أن تجد لها إسلوباً شخصياً بالرسم، يجمع بين البدائية والواقعية السحرية وبمناخات غرائبية. ورغم وصف الشاعر الفرنسي بريتون أعمالها بالسريالية، لكنها قالت له بأنها لا تعرف السيريالية ولم تفكر بها عند رسم لوحاتها، بل كانت ترسم واقعها الحقيقي الذي تعيش فيه، هذا الواقع الذي كان مليئاً بالكوابيس التي حولته الى أبشع من الخيال. لذا كانت لوحاتها مليئة بالصدق والتعبير الذي يصل أحياناً حد الإبتذال والقسوة.
أقيم أول معرض مهم لأعمال فريدا سنة ١٩٣٩ في باريس، وساعدها بذلك الفنان مارسيل دوشامب. وقد أشاد بها بيكاسو وكاندينسكي خلال المعرض وإقتنى منها متحف اللوفر لوحة حمراء أسمتها (الإطار)، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أن المجلة الشهيرة فوغ قد وضعت يد فريدا على أحد أغلفتها، صورة يدها فقط! تلك اليد المليئة بالأساور الملونة، والتي حوَّلت الألم الى لوحات مُلهِمَة.
أزدادت شهرة فريدا بعد وفاتها، وباتت المتاحف تتزاحم على ضم أعمالها، وكلما مرَّ الوقت زادت شهرتها أكثر، حتى أصبحت ايقونة في تاريخ الفن والثقافة. وهكذا بسبب فنها الشخصي وحياتها الدرامية وشكلها الفريد وملابسها الملونة وقلائدها الغريبة وحاجباها المتعاقدان والزهور التي تضعها على رأسها، إحتلت صورتها مكانة كبيرة في الثقافة الشعبية في أنحاء العالم.