حيدر المحسن
تمسّ المقالة الأدبيّة حياة الفرد مباشرة، وتدخل في خباياه، وتستشرف العالم البعيد والقريب، والأقرب. ويمنح هذا الفنّ مريدَه أن يعيش مهرجان المدينة حوله كلّ يوم، داخلَ بيوتها وخارجها. كلّ شيء صار ملكه طالما كتب عنه وثبّته على الورق، الزّجاج والمباني والشّوارع والنّهر بضفّتيه، وكأنّه غدا نخلةً باسقة تتفاعل مع الرّيح والشّمس، وتدور مع الحركة في المدينة، وتتشكّل فيها الثّمار، وتتأثّر بما يجري.
وكان الرّاحل علي جواد الطّاهر يدعو النّصّ الذي يستعذبه مقالا، والذي عكسه مقالة، وكأنّ روح الشّرق في تفضيل الذّكورة لا تريد أن تبارحنا حتى في اسم هذا الفنّ، وأنا أفضّل دعوتها بتاء التّأنيث لأنّها تشبه حوّاء، لطيفة، وخفيفة على القلب، وسهلة المنال في الظّاهر، لكنها مستحيلة على العاجز.
وتزدهي المقالة وتصير قطعة فنّيّة حين تشعّ فيها رائحة الحنان، فتحرّك دماءنا كي تطفر من مكانها وتتغيّر نحو الأحسن، أو أن النصّ يكون باردا فاترا فينهكنا من الضّجر، ويقتلنا مللا. الإيقاع مطلوب ولازم، وجرس الكلمة مع الصّمت أو السّكون أو الصّخب الذي يليه مطلوب ولازم، والعمل العشوائيّ يخلص إلى أدب عشوائيّ يشبه البناء العشوائيّ، لا تنظيم ولا هندسة ولا ترتيب ولا إحساس بالفراغ، لقد تسرّب النّظام من فتحة خفيّة في المكان، واستمرّ التّسرّب إلى النّهاية.
ورغم أن كلّ الفنون تتوق إلى محاكاة الموسيقى، لكنّ فنّ المقالة إلى روح النّغم أقرب، طلاوة الحرف ورونق المعنى تنتج عن اجتماعهما ملاحة في الكلام، ويظنّ البعض أن افتعال الشّدّة في الأسلوب، والتّعالي على القارئ يضمنان تقدير النّقاد. الكلام العسير مثل الماء العسر. وهناك من يلجأ إلى الخطاب الأعمى، وهو الذي لا يستدلّ طريقه إلى القرّاء، كأنّه معادلة رياضيّة في الهندسة، ويحدث هذا في الشّعر أكثر، وفي القصّة والرّواية. “وقد أخبرني البعض بأن كلّ معادلة أضمّنها الكتاب ستقلّل المبيعات إلى النّصف، ولهذا قرّرت ألاّ يكون هناك معادلات على الإطلاق، على أنّي أدخلت في النّهاية “بالفعل”، معادلة اينشتاين الشّهيرة: الطّاقة = الكتلة × مربّع سرعة الضّوء. وأرجو ألّا يؤدي هذا إلى أن يولي فرقا نصف ما يحتمل من قرّائي”، الكلام هذا لعالم الفيزياء الشّهير ستيفن هوكينغ في مقدّمة كتابه “تاريخ مختصر للزّمن”. يتجنّب عالِم الذّرّة والفيزياء والفلك أيّ شيء يؤدّي إلى نفور القارئ من كتابه، وإن أخلّ في الأخير بكمّيّة العلم فيه، بينما نجد في دنيا الأدب من يضع في النّصّ ما هو أصعب من تمثيل الكون في معادلة رياضيّة، ويأتيك بمقالات تغشّك في بادئ الأمر فتحسب الموت الذي فيها حياة، ويترك هذا فراغا في قلبك، تلغيه مباشرة لحظات من التأمّل.
في محاورة فيدروس يتحدّث أفلاطون عن «الوحدة العضويّة» في الخطاب الأدبيّ، والذي من المفروض أن يتشكّل ك»مخلوق حيّ»، وهذا يعني أن لا ينقسم إلى وحدات مُجزّأة منفصلة، بل إنّ وحدات المقالة وإن تعدّدت، «تستطيع -بالتّضامّ- أن تشكّل الكلّ ببساطة»، وأرجو الانتباه إلى شرط «البساطة» الذي وضعه فيلسوف المأدبة على اتّحاد الأجزاء في واحد.
ويمكن أن تصنع لك المقالة نصبا تذكاريا، أو أنها تحفر لك حفرة، أو لا هذا ولا ذاك، وهذا النوع هو الأعمّ في ما نقرأ في الصحف وفي الكتب الخاصّة بهذا الفنّ، لأن المؤلّف لم يصبّ جهده في سبيل أن يرفعه القرّاء فوق رؤوسهم، ولا يهبط دون ذلك فيضيع في بحران همهماتهم، وإذا استمرّ على هذا المنوال بالهبوط فقد يحدث أن تدوسه الكعاب، ويفضّل الكاتب عندها الموت على أن يُحشر في هذه المكان؛ أمثولة للفشل والعجز وفساد الذّوق، والموت في الأخير ليس أسوأ ما يمكن أن يواجهه الفنّان في حياته.
تُكتب المقالة وكأنّ قائلها عندليب يغنّي، يجمع بين أثمن شيئين في الوجود؛ الموسيقى الخلّابة والحكمة الباقية.