لطفية الدليمي
مرّت مئوية تأسيس الدولة العراقية قبل بضعة شهور مثل لصّ يتخفّى في الظلام. نشرت وزارة الثقافة العراقية بعضاً من الكتب المكتوبة على عجالة تناول فيها مؤلفوها بعض جوانب الثقافة العراقية من أدب ورواية وفلسفة وسياسة وقانون ؛ لكنّ الكتابة جاءت باردة شبيهة بأطروحات أكاديمية ناقصة.
لم تكن هذه الكتابات لتزيد عن كونها إسقاط عبء مئوية التأسيس عن كاهل كارهين لفلسفة التأسيس ذاتها. عامت الكتابات في مياه السواحل الضحلة ولم تغامر في اختراق الدوامات العميقة. أما الاحتفاليات الحكومية الخجولة بهذه المئوية فكانت استطراداً لفلكلوريات مجتمعية ساذجة.
لاخير يرتجى من الفعاليات الحكومية الرسمية ؛ لكن ماذا بشأن الفرد العراقي ؟ أفضلُ مايمكن أن يفعله العراقي المهجوس بالمعضلة العراقية هو قراءة رصينة لتأريخ الدولة العراقية منذ تأسيسها الرسمي كمملكة عام 1921 حتى أيامنا البائسة هذه. لكن ماذا يقرأ ؟ ولمن يقرأ ؟
عجيبٌ أمر العراق ! نشأ كدولة لها علم وجيش ودستور متقدم ونظام تعليمي وصحي واعد أيام لم تكن الهند أو الباكستان أو الكثير من الدول العربية أو الافريقية والاسيوية دولاً مستقلة. كانت بدايات العراق تشي بإمكانية خلق دولة محورية تتبنى نمطاً مقبولاً من ليبرالية يمكن تطويرها بثبات، ولم أكن مغالية عندما كتبتُ في مقالة سابقة لي أنّ العراق كان ممكناً له أن يكون (ياباناً في الشرق الأوسط) ؛ لكنّ ماحصل لاحقاً كان خيبة أمل كبرى وضياعاً لعقود عديدة من فرص التنمية السياسية والاقتصادية. هذه تفاصيل يمكن أن نقرأها في كتب رصينة مكتوبة بعقل هادئ وليس في كتب تتناول جوانب محدّدة تراقِصُ فيها بعض العواطف الفائضة وغير المعقلنة لشرائح كبيرة من العراقيين. لسنا في حاجة إلى تكرار مرويات شعبوية عن (دهاء نوري السعيد) أو (سفرطاس الزعيم) أو (طيبة عبد الرحمن عارف)،،،، إلخ. يجب تحديد الأوصاف بمواصفاتها المحدّدة في سياقاتها من غير فيوض عاطفية.
قليلةٌ هي الكتب التي تتناول جوانب محدّدة من تأريخ الدولة العراقية برصانة أكاديمية مشهودة. يكتب بعض العراقيين عن العراق وكأنه (متجر أو بقالة أو علوة خضار) تسوده الترتيبات السياسية وكأننا في سرادق محفل عشائري واسع. ينبؤنا واقع الحال أنّ كتاب حنا بطاطو الموسوم (العراق : الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية) لم يزل منذ نشره عام 1978 كتاباً معيارياً لتناول تأريخ الدولة العراقية ؛ لكنّ أرجحيته تكمن في كونه مترجماً إلى العربية. توجد العديد من الكتب الممتازة المكتوبة عن العراق باللغة الانكليزية، منها مثلاً الكتب التالية : بريطانيا في العراق : صناعة ملك ودولة، لمؤلفه بيتر سلوغليت، والذي أصدرته المدى مترجماً هذه السنة، وأيضاً كُتُب تشارلس تريب، و دوبي دوج.
لابدّ هنا من الإشارة إلى الجهود الطيبة التي يبذلها الدكتور سيار الجميل في تأسيس مدرسة عراقية في الكتابة التأريخية الرصينة، وليس هذا بالغريب عليه ؛ فهو أحد التلاميذ الخُلّص للبروفسور ألبرت حوراني، المؤرخ الأكثر رصانة لتأريخ الشعوب العربية ومنطقة الشرق الأوسط، ومؤلف الكتابين ذائعي الصيت (تأريخ الشعوب العربية) و (الفكر العربي في العصر الليبرالي)، والكتابان مترجمان إلى العربية لمن يحبّ قراءتهما بهذه اللغة.
الدكتور الجميل أنشط مؤرخ عراقي معاصر، لايتردّد في فتح مغاليق الخفايا الاشكالية في الموضوعات التأريخية. عندما تقرأ له كتاب (بقايا هيكل) المنشور عام 2008 ستعرف الكثير عن ألاعيب البروباغاندا ومراكز القوى ومايمكن أن تفعله الكراهية المسبقة في تمرير الأحداث التأريخية في عنق زجاجة ضيقة، ومن ثم جعل الأمور تبدو وكأنها حقائق مطلقة. إنها لعبة لغة ومناورات تعلي الشان الشخصي على حساب القيمة التأريخية والنزاهة الفردية.
كثيرةٌ هي الكتب الرصينة التي نشرها الدكتور الجميل (تُعدّ بالعشرات)، وكلها تستحقّ قراءة متفحصة لأنها نتاج عقل هادئ بعيد عن الشعبويات الزاعقة صفرية القيمة. قرأت من كتبه : تكوين العرب الحديث، إنتلجنسيا العراق : دراسة في النخب العراقية المثقفة الحديثة، زعماء وأفندية، وأرى أنّ كتابه الأخير المنشور حديثاً (الملك فيصل الأول : أدواره التأريخية ومشروعاته النهضوية) مساهمة رائعة من جانب الدكتور الجميل في إثراء فكر المئوية العراقية بعمل ينصفُ ملكاً مظلوماً ويكشف عن جهوده الفذة في إرساء دعائم دولة وسط ظروف مشتبكة ومعقدة.
كُتُبُ الدكتور الجميل – وكذلك كتاباته في موقعه الالكتروني – تستحقّ قراءة دقيقة وتفكّراً كبيراً، ومن يقرؤها سيخرج بحصيلة ثرية من الأفكار التي تستحثّ إعادة النظر في تأريخنا العراقي المثقل بالتباساتكثيرة وقراءات متحيزة.