ستار كاووش
تبرز البورتريهات التي يرسمها علي رضا بوضوح وقوة، كما تبرز التماثيل النصفية التي في متحف اللوفر، تلك التماثيل التي تنظر الى الأفق، بلونها الابيض الذي منحته الظلال المنعكسة على ملامحها هيبة وإجلال وقوة. هكذا تكون المواهب العالية حين تمنح الأشياء الجامدة روح وحياة، بل تعطيها أجنحة تحلّق بها لتبهر الجميع.
تتنقل أصابع علي رضا بين الظل والنور، بنعومة وحساسية ومعالجات خاصة ومـؤثرة، لتجعل الخطوط متناغمة في ترفٍ نادر، وتنجزُ لنا وجوهً تواجهنا بنظرات واثقة، متسائلة، حانية أو حتى ساهمة. وجوه رسمها بتقنيته البارعة التي فيها إنسجام وتمكن وسيطرة على انحناءات الخطوط والتدرجات والتعبيرات المختلفة، ولا يكتفي الرسام بذلك، بل يضع بين أيدينا إحساس بالفورم والكتل وكأنه نحتها بقلم الرصاص. أتأملُ هنا مرونة الخطوط وقوة التعبير والسيطرة الكاملة على القلم الذي يتحرك برهافة قلَّ مثيلها ليمنحنا هذه البورتريهات المليئة بالعاطفة، حيث تجتمع البساطة مع العمق، القوة مع الترف، الإنسجام مع التمكن.. ليقول الإبداع كلمته في النهاية.
حساسية علي رضا العالية في التخطيط جعلته متمكناً في معالجة الرماديات التي تنساب فوق وجوه النماذج التي يرسمها برهافة، مثل ينبوع دافئ يمنحها حيوية وحياة. وهو يتعمد أحياناً بوضع خطوط وتونات خافتة، أسفل أو أعلى التخطيط، لتبدو هذه الأجزاء غائبة وغير منتهية، وبذلك يجعل تركيزنا منصباً على ملامح الوجوه التي بدت بفعل ذلك، أكثر روحانية واشراقاً، وصارت نظرات العيون، تغوص بعيداً بإتجاه الرسام ذاته أو باتجاهنا نحن المتلقين أو ربما تغيب مع الأفق.
الإبداع هو أن يحمل العمل الفني -إضافة الى تقنيته المميزة- حساسية خاصة تعكس روح الفنان. والتخطيط عند علي رضا ليس فقط مجموعة خطوط تتداخل وتتناغم وتتماهى مع بعضها، بل هو في الحقيقة يعكسُ جانباً من شخصية هذا الفنان وروحه الودودة والذكية والمبدعة، ويمزجُ كل ذلك مع شخصية النموذج أو الموديل، لتكون النتيجة إيقونات معاصرة بقلم الرصاص.
في هذه الوجوه التي رسمها بقلم الرصاص، يَعبرُ على رضا نهر البورتريت من ضفة المهارة الى ضفة التعبير، لذا ستبقى أعماله وتدوم. فهو بمجرد أن يمسك قلم الرصاص حتى يتحول القلم الى عصا سحرية من تلك التي تمسكها ساحرات القصص الخرافية، وما عليه سوى تحريك هذا القلم بمتعة على الورق، حتى تخرج لنا هذه الشخصيات الباهرة وهي مكتملة، وكأنها كانت تختفي في بياض الورقة وانبثقت فجأة بفعل قوة عجيبة تستحضرها. وهنا يتعمد بتركِ بعض الفراغات والأماكن المشغولة بسرعة، كأنه يقول، لا إكتمال للعمل الفني، مثلما فعل مايكل أنجلو، حين كسرَ أنف تمثال موسى بعدَ رآه يقترب من الكمال.
السحر هو أن تحول أشياء بسيطة الى كنز، أن تصنع من الوردة بستان عامر بالزهور، أن تجعل من النافذة حياة كاملة، أن تُحرك عصاك لتحول المكان الى نهر من المحبة، ولا يحتاج علي رضا لتحقيق ذلك، سوى المضي مع قلمه والانغماس في ضباب التونات والتدرجات ونغمات الرمادي التي لا تنتهي ليقدم لنا أعماه الجميلة. والأحرى بنا أن لا نسمي قلمه (قلم رصاص) بل (قلم ذهب) يمنح الهدايا والعطايا الجمالية لكل وجه يَمُرُّ أمامه. فهو يعيد تشكيل هذه الوجوه من جديد، لتبدوا مألوفة من فرط إنسجام خطوطها وتفاصيل ملامحها.
سيمضي القلم بعيداً وستغيب الوجوه، لكن التخطيطات ستحيا الى الأبد، من خلال البصمة النادرة لهذا الفنان، والتي جعلت الخطوط تتداخل، تتجانس، تتناغم، تنسجم، تلعب وتحب بعضها وهي تتآلف مع المحيط. وفي النهاية تكون النتيجة، وجوه نادرة، مشعة محملة بضوءِ موهبةٍ كبيرة.
ياله من مشروع ويالها من نافذة، فتحها هذا الفنان على ملامح الناس الذين عرفهم وشاركهم القليل أو الكثير من الذكريات والتفاصيل، وأحبهم مثلما أحبوه. إمضِ أيها الفنان مع أوراقك وقلمك الذي مهما بريته سينمو من جديد وسيحيا من خلال الوجوه التي داعبها وإنسجم معها وغفا على ملامحها الى الأبد.