TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: ((حانة نازه لي))

مرساة: ((حانة نازه لي))

نشر في: 18 يناير, 2022: 11:18 م

 حيدر المحسن

في مدينة أربيل الحديثة، وبالقرب من القنصلية الامريكية، هناك المطعم الفرنسي، والإيطالي، وهنالك حانة اسمها نازه لي.

- هل أنت بمفردك؟

سألني النادل، بينما كنت أمدّ بصري في المكان الواسع. الجدران من خشب، والسقف، والأرض. الزبائن قليلون في هذا النهار الرائق؛ فتيات وشبّان لا يجمع بيني وبينهم غير الموسيقى الناعمة، والأنوار الخافتة، وشيء من صحبة تجعلنا نختلف لأننا نأكل ونشرب معا. روبرت براوننغ: من يسمع الموسيقى يحسّ وكأن وحدته قد أزحمت فورا بالناس.

البيرة في حانة نازه لي لبنانية، والمزّة لبنانيّة، والخبز. الأثاث تم اختياره ليعطيك انطباعا غير محايد، كما أن فيه الغموض والسطوة السحرية اللذان يتطلّبهما الفن. سألت النادل، وأنا أتملّى المنيو الخاصّ بالحانة:

- ما هو حمّص نازه لي؟

- هو طحين الحمّص مطبوخ بالفستق الحلبي.

طلبت صحناً منه، وزجاجة بيرة (ألمازة). نور النهار في النوافذ الخشبية يجعل الغموض في الحانة لذيذ التناسق، وكانت تسبح في الجوّ، بالإضافة إلى الأنغام الشجيّة، أضغاث عبير. إحدى الفتيات بدأت تحكي نكتة، وتتضاحك، وتتلّلذّذ في الأثناء بكأس الواين.

دقائق، وغامت السماء، وأخذ المطر يهطل في النوافذ، واغتسلت الأشجار في الضوء المعتم النادر. وكنت أشعر بالسعادة المضاعفة، وبأني ابدأ دورة جديدة في الحياة، أكتشف فيها لذة مشاركة الآخرين السقف الواحد، والجدران، والأرض الثابتة. ظلّ البرق يومض في نوافذ البار، وجعل دفء المكان عطورنا، نحن الجالسين، مرئية.

العبارة الشهيرة "الجحيم هو الآخرون" وردت في مسرحية "لا مخرج" لجان بول سارتر. يبدأ العَرض بالخادم وهو يُدخل "جارسين" غرفة لا تحتوي على نوافذ. وبعد مدة يدخل "اينس" و"ايستل"، ثم يخرج الخادم ويقفل الباب. يتوقع الثلاثة أن يُعذبوا، ولكن لا عذاب يأتي. بالمقابل، يدركون أنهم يفترض أن يعذبوا بعضهم البعض، ويفعلوا ذلك عن طريق التحقيق في ذنوب كل واحد منهم ورغباته وذكرياته المؤلمة.

يحاول سارتر الكشف أن الجحيم ليس تعذيبا بالنار والحجارة ولكن العذاب الحقيقي يأتي من الآخرين.

لنبدأ من كلمة آخِرون )؛ في الكتاب الثاني من "الإلياذة" يتّضح لنا أنها اسم لنهر جارٍ في الجحيم، وفي Acheron( "الإنياذة" يحفرها دانتي في بيت من الشعر:

"على نهر آخِرون الكئيب".

كيف انطوى العالم من لسان إلى لسان وصرنا نقرأ الكلمة في لغة أخرى، وتحمل المعنى نفسه؟ وهل استمدّ سارتر من هذين المصدرين عبارته الشهيرة؟ لا أدري.

رجل يتألم من الوحدة أشدّ الألم، هاملت، على أغلب الظنّ، وكان يشكو، ويتحسّر، ويئن، ويطلب أمير الدانيمارك الشفاء من هذا الوضر من لدن الآخرين. يصيح:

"هلمّوا إلى الأسواق، والحانات، وملتقى الباعة والشراة".

في السوق يجتمع الناس في عرس كلّ يوم، والتفكير بهذه الصورة يدعونا إلى قلب المعادلة الكلامية لتكون: "الآخرون هم النعيم"، سواء كان مسراهم في البحار، أم كانوا يجولون في الأرض أم في الجو، شريطة أن لا يكون رفيقك هجين من خنزير وسمكة قرش وسعلاة...

ليس هناك أروع من أن تحتكّ كتفاك بالناس، وتنظر مباشرة إليهم. في أيّ مكان استقرّ، حتى لو في محطة انتظار الباص، أفكّر أولا أن أجد أحدا قربي، وأبدأ عندها أحسّ بأننا نشترك معا في بقعة صغيرة هي فسحة من الجنة...

رائحة الطعام في الحانة تبعث الطمأنينة في النفس. رسم النادل اللبنانيّ على وجهه ابتسامة مصطنعة وهو يسلّمني أخيرا قائمة الحساب. كم أحببتُ هذه البسمة، وأحببتها أكثر لأنها غير حقيقية، وهذه نحتاجها أكثر لأنها تذكّرنا بكل شيء حقيقي. عندا غادرت كان الليل يهيمن على سماء المدينة، وهو يشبه ذلك الذي صاحب ميلاد العالم، الرائحة ذات الرائحة، وكذلك الضوء والنسمة...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram