طالب عبد العزيز
وحيداً أتامل وجوهَ الحاضرين، في مجلس عزاء الشبان الاربعة، كانت الحافلة قد انقلبت بهم على طريق عودتهم من هناك، حيث تبرق في السماء قطعة صفراء .
سَوّرة من نعاس الفجر أخذت السائق الى رملة بعيدة عن الأسفلت الاسود، الذي يصل البصرة ببغداد وبالاضرحة التي هناك، فلم ينج إلا من إنكسرت عظمة ترقوته، إلا من تهشمت عظمة ساقه، وتشبث بمقعده حين توزع أصحابه الموتُ، هناك، حيث لا أحد في ما انخسف من الارض كان قريبا، ومع الشمس ودفئها تداككت الناس عندهم، فحملت النعوش ثانية الى النجف من حملت، وفرشت الاسرة البيض في الناصرية والزبير لمن فرشت، وهذا انا ابصر الوجوه ملثمة تبكي، والقلوب تتجرع الصبر وتصمت.
لا أكتب مرثية لأحد، لكنني باك قديم، وغارس ظلال وأفياء، ومجدّف على تواريخ أصنام شهير، أفردني الاهل في مجالسهم بكلام لا أحبّه، ثم قالوا هو يستعجل حتفه، وكنت من قبلهم قد حسمت أمري باختيار المثوى والمآل، غير مبال بما ورثته عن ابي انتساباً وانتماءاً، إذ العقل مثل النبوات لا يورَّث، فلطالما كرهت التماثل وأحببت الاختلاف، هذه الاشياء المتشابهة تصيبني بالقرف، تجعلني فاقداً نفسي في الوجود والصيرورة، لذا سأرفع قبعتي للنجّار الذي اشتغل بازميله خزانة الثياب، خاصتي، فهو يخطئ في حفر الرسمة، وينحرف بمقشطته قليلاً، كلما صار الى مقبض الباب، أنا أنصت لأزاميله ومقاشطه وهي تناظر القبضتين، تجعل الفروق كثيرة، و هي تجعل الاسباب خارج متن اللغة والبيان.
أبحث في ما أختلف من ملامح اهلي معي وأسعد، أكرهني متشابهاً مع أحد منهم، وليس بينهم من يحمل عني ثقل الكراهية تلك، يالتعاستهم يبحثون عن الكمال، الذي تواتروا على التعلق به، وينشدون حفظ ما دأب آباؤنا على حفظه والعناية به، يجلسون في المآتم باكين، ويخرجون بالجنائز ملثمين، ومع المنشدين النائحين ذاهبين بمآقيهم ، صائرين الى كل ما هو بليد وطحلبي، هؤلاء الاربعة ضحية منشد دعاهم الى هناك، فتركوا دكان البقالة، وأقفاص الدجاج بمكينة حت الريش الرطبة، اغلقوا باب دكانة الرز بادام الفاصولياء، تركوا كل شيء كما هي عادتهم دائماً، وذهبوا، لتنقلب المركبة بهم هناك، بعيداً عن النخل والشجر والافياء. يالقبح هؤلاء الملثمين، المنشدين، المفوّهين، ويا لبئس مانقلوا وقالوا وأذاعوا عن أشياخهم، يالهم ويالي، من أولئك الباحثين في هشيم أجساد الفتية الاربعة عن مرادهم وما يردم حفر البغضاء في أرواحهم، فيما الجمال مكنون في القلوب والاعين الغضة الوسناء.
أريدها ان تبلى أنيقة زاهية على اجسادهم تلك الثياب التي ملأوا الخزانات بها، أريدها أن تنخرق وتتمزق على الأرصفة والعشب أحذيتهم، التي مازالت تحت الاسرة، أريدها أن تنفد في المطارات والمتاحف وصالات الرقص والنساء النقودَ ادخروها في جيوبهم .. ولا أريدهم محشورين في المركبات المسرعة، هناك، أو متوقفين في مطاعم الطرق الرملية، ذاهبين أو عائدين، منتظرين دورهم في المراحيض القذرة، حيث تزكم الانوف رائحة اللحم بالرز والحمص.. يقول حكيم: الآلهة موجود الشرور ، التجأ الانسان إليها حين أبرقت السماء وداهمته الوحوش .. الطمأنينة وهناءة العيش لا تقودان الى المعبد.