حيدر المحسن
في الريف العراقي كلاب تشبه الذئاب، وللواحد منها هيبة وسطوة الأسد. وهجم عليَّ في أحد الليالي وحشٌ أسودُ ظهر فجأة من وسط الظّلام، وكانت العجلة تمضي بي وأنا أسوقها مثل اللاّهي.
عضّ الكلب -الذي كان يبدو في ضوء المصابيح أسودَ أغبرَ جهنّميّ اللون- دعامة السيارة، وأخذها في فمه، في الوقت الذي كان يدوسه إطارُ العجلة الأمامي، ويطحنه، وأتبع ذلك الإطار الخلفي، ورأيت الوحش في المرآة يعرج في أثري، وينبح. قالوا: ومرَّ المسيحُ بن مريم في الحَواريِّين بجِيفة كلب، فقال بعضهم:
ما أشدَّ نتنَ ريحه! قال: فهلاّ قلتَ: ما أشدّ بياضَ أسنانه! في كتاب “تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب” نقرأ قولا للخليفة الثالث عمر بن الخطاب: «من لا يعرف الأمور يقول إن الكلب من السباع ولو كان كذلك ما ألِفَ النّاسَ واستوحش من السّباع وكرِه الغياض وألِفَ الدور واستوحش من البراري وجانب القفار وألِفَ المجالس والديار وكيف لا يكون كذلك وهو لا يرضى لنفسه بالنوم والربوض على الأرض وهو لا يرى بساطاً ولا وسادة إلا علاها وجلس عليها...» إلى آخر الكلام الذي يدلّ على رهافة حسّ عمر ودقّة ملاحظته وإيثاره الرفق بالحيوان وإن كان كلبا. كانت السّماءُ خفيضةً في السّاحة والحياةُ في لحظات امتلاء. زهورٌ بيضٌ تأمر الجميعَ بالصّمت. وظهر صبيّ كأنما من لا مكان، وظلّ يطارد الكلبَ وحليَّ اللون. الصبيّ ينبح، ويرمي الأحجار ويعوي، والكلب المطارَد يركض شاردا، والصبيّ يتبعه بالنباح وبالحجارة، وغادر الساحة كل ما فيها من طلاقة وسحر بسبب صبيّ. سعدي يوسف:
«البشر يشبهون الكلاب
والكلاب تشبه البشر»
يربّي العربُ الكلب في البيت عندما يسكنون الريف والبادية، وهناك من يتمسّك به وإن سكن قصرا في مركز المدينة. يطلق صاحب المنزل كلبين أو ثلاثة في الجوار، ويربط آخر في الداخل من أجل أن يتوحّش أكثر، وربما بلغ هذا حدَّ أن عضّ صاحبه وأنشأ فيه أنيابه من شدة شراسته، وصاحبه يبتهج كلما اشتدّت ضراوته. وكنت أحلّ ضيفا في بستان صديق، وأُطلِقت العجلان والأبقار والأغنام من الحظيرة في أول النهار للرعي، وبقي كلب فحميّ اللّون مربوطا إلى وتده. حاول أن يفلّ رباطه، وعندما يئس ظلّ يطلق نواحا يفطر القلب.
يذكر الجاحظ في كتاب الحيوان أنواع كلام الكلاب، ولم يكن منها النباح، وهذا يدلّ على شدّة تعلّق «أبو عثمان» بكلبه: “وله ضروبٌ من النّغَم، وأشكال من الأصوات، وله نوح وتطريب، ودُعاء وخُوار، وهَرير وعُواء، وبَصبصة، وشيءٌ يصنَعه عند الفرح، وله صوت شبيهٌ بالأنينِ إذا كان يَغْشَى الصّيد، وله إذا لاعَبَ أشكالَه في غُدُوات الصّيفِ شيءٌ بين العُواء والأنين”.
ولكن يبقى النّباح أعذب أصوات الكلاب، والكلب الذي أتحدّث عنه هو أيّ كلب، سائبٌ ربما، ناتئ الأضلاع يتشمّم القمامة، أو كلب مدلّل في البيت. وأنا أقول: أيها الكلب الكلب، يرتفع اللفظ في الهواء، كأنك تقول: أيّها النهر النهر. وليس لهذا الكلب ـ أي النهرـ المهتاج والغاضب غير نباحه، لكنه يهبنا ذاته كلها وهو ينبح، ليغدو النهار عندها زجاجيّاً بشمسه اللامعة.
وصف المتنبي وابن المعتز وابن فرناس الكلب، لكن أبلغهم كان «أبو نؤاس»:
أَنْعَتُ كلباً أهلُه من كدّهِ/ قد سعِدَتْ جُدودُهم بجَدّهِ/ فكلّ خيرٍ عندهم من عـندهِ،/ يظلُّ مولاهُ له كعـبدِهِ/ يبيتُ أدنى صاحب من مهْدهِ
وإنْ عَـرِي جـلّلَهُ بـبُـرْدِهِ/ ذا غُـرّةٍ، مـُحَجـَّلاً بـزَنْـدِهِ،/ تلذُّ منه العـينُ حُسنَ قدِّه/ يا حسنَ شدقيهِ وطول خدِّه/ تلقى الظّباءُ عَنَتاً من طرْدِهِ/ يا لك من كلبٍ نسيجِ وحْدِهِ...
تحلّ رائحة الكلب أولاً، تلك النّفحة الأولى من الإبداع، ثم يأتي ظلّه القصير جداً والقديم جداً، ينزعه الكلب من العشب، من الجدار، ينزعه مسرعاً من الطريق.
روح الكلب تتفتح في فمه حين ينبح، والنباحُ هو وردةُ الكلبِ الحمراء والصفراء والبيضاء...