ستار كاووش
كيف تُنجَزُ الأعمال الفنية التي فيها إبداع وجمال وإبتكار؟ هل تكفي النوايا الجيدة لصنع ذلك، أم يقف وراء هذه الأعمال موهبة عالية وخبرة وإجتهاد؟ يقول الهولنديون في أحد أمثالهم (الكلام لا يسد الثقوب) وهذا يبدو مدخلاً جيداً للموضوع، فالنوايا بكل أنواعها لا يمكن أن تؤدي الى عمل جيد،
ما لم يصاحبها موهبة من نوع ما وتفاني ودقة وخبرة وتخطيط وتهيئة لإنجاز العمل. وينطبق هذا بالتأكيد على الأعمال الإبداعية أكثر من غيرها، فلا يمكن لأي شخص مثلاً أن يصبح روائياً، بمجرد أن يكتبَ كتاباً يحتوي على بعض الأحداث، ولن يصبح كل إنسان رساماً، فقط لأنه يدلق الألوان كما إتفق على قطعة القماشة المسكينة، بحجة إنَّ ما يقوم به يصب في خانة الفن الحديث. فالفن بكل أنواعه، بما في ذلك الفن الحديث طبعاً براء من هذه الإدعاءات التي يجيدها من لا يعرفون ماهية الفن الحقيقي ومعناه. العملية الإبداعية تحتاج الى موهبة -حتى لو كانت صغيرة- وبحث وعمل ومثابرة ومحاولات لا تنتهي للوصول الى نتيجة جيدة.
الفن بشكله العام جميل وممتع وفيه جاذبية كبيرة، لكن علينا أن لا نستسهله، فلا يمكن أن نَلُمَّ حجارة الطريق ونعرضها بإعتبارها فناً. فالفنان الحقيقي هو من يَلُمَّ حجارة الطريق ويصنع منها منحوتات جميلة، وإلا كيفَ يمكن لمجرد قطعة من الحجر لم يمسسها إزميل ولم تحدث عليها تعديلات ودون معالجة، أن نقارنها بقطعة حجر أخرى قضى معها مايكل أنجلو -على سبيل المثال- سنتين ليمنحها شكلاً مذهلاً ويعطيها حياة؟
حين نتساءل عن هذا الطبيب أو ذاكَ الجراح، كونهُ جيداً وناجحاً، فذلك لأنه يستطيع أن يُجري عملية ناجحة ولا يموت المريض بين يديه. كذلك حين نقول إن هذا روائي عظيم، فذلك بكل بساطة لأنه إستطاع أن يصنع من اللغة حياة، أن يغور في أعماق نفسيات شخصياته ويصنع من العلاقات بينها عالماً متكاملاً مليئاً بالصراع والحكمة. فلماذا إذن نصمت أمام من يقتل الإبداع بحجة الحرية (والحداثة)؟! فحتى لاعبي كرة القدم لا تدفع لهم أنديتهم الملايين كونهم يركلون الكرة فقط، بل لمهارات معينة لا تتوفر عند غيرهم. طيِّب لماذا يحدث عكس ذلك في الرسم مثلاً؟ وأين هي الحدود التي يمكن الإستناد عليها؟ أنا هنا لا أتكلم عن هواة الرسم الذين يحاولون أن يرسموا أشياءً تمنحهم نوع من المتعة والراحة النفسية (وأحياناً يظهر بينهم فنانون رائعون، ينتجون أعمالاً جميلة)، بل عن أشخاص يطرحون أنفسهم كفنانين محترفين لا يُشق لهم غبار، رغم إن أعمالهم هي الغبار ذاته.
من الجيد أن نكسر المقاييس ونتجاوز القاعدة، على أن نقدم شيئاً ذو قيمة جمالية حقيقية، لا أن نضيِّعَ المقاييس الى الأبد، نعم لقد ضاعت المقاييس ولم نحصل على مقاييس جديدة، والقاعدة إنخسفت ولم يعد هناك ما نقف عليه! وفَضَّلَ الكثيرون الصمت أزاء ذلك، كي لا يُتَهَمونَ بالجهل ومحاربة الجمال، فقرروا الصمت. لتكون النتيجة أن يتوجه كل من يريد نحو قماشة الرسم وكإنَّ الأمر يتعلق بصباغة بابٍ أو نافذة وليس إنجاز أعمالاً فنية!
أنا أتساءل هنا فقط، وأعرف بالتأكيد إن الحرية قد منحت كل شخص الحق في عمل ما يريد. وتساؤلي هو: تُرى هل نحن بحاجة -في هذا الأمر- الى ضوابط تشبه الى حد ما الرقابة النوعية التي كانت توضع على إصدار الكتب في الكثير من البلدان، تلك الرقابة التي ذهبت، وذهبَت معها -في الكثير من الأحيان- جودة الإبداع، تحت بند الحرية، بعدما صار بإمكان كل شخص طباعة كتاب بكل سهولة حتى لو كان مستواه هابطاً.