حيدر المحسن
في فضاء الحياة سبل شتّى، فلكلّ امرأة سبيل، ولكلّ أمّة سبيل، ولكلّ قارّة سبيل. وكان من نصيب الفتاة سونيا أرمينيّة الأصل أن تكون صاحبة محلّ لبيع الزّهور في شارع 62 في رصافة بغداد. هي راضية بحياتِها، والحياة فرحة لأنّها ترى فتاةً سمراء لها عينان خضراوان، وتضفر بيديها النّاعمتين والقويّتين أكاليلَ الورد، تزيّن بها العرسان وتشفي بفألها الحسن المرضى.
عدا دكّانة “سونيا للزّهور”، تبدو جميع المحالّ والمخازن في شارع 62 كأنّها من غير طائل، والحياة فيها محجوبة بالصَّدَإِ بسبب قلّة الحركة، إذا استثنينا مطعم “أبو علي” في الجهة المقابلة، ومرطّبات “السّائحة” ومطعم “صاج الرّيف” وأسواق “همسة” في الجانب نفسه. لكنّ زبائن سونيا قليلون، وأسألها: “هل تقرئين الصّحف؟” وتنفي ذلك، الحسناء ذات الشّعر القصير فحميّ اللّون، وأفتّش بعينيّ فلا أجد كتابا. أسألها ثانية: “ماذا تفعلين في وقت الفراغ إذًا؟”. وتجيبني بروح تمتلئ ثقة، وبصوت كلّه أمل بالحياة الحلوة: “أنتجُ!”. استفهمتُ بعيني، وأشارت إلى موجودات المحلّ: “هذا كلّه من صنعي!”. وأشرق وجهها ليس بفعل المصباح المنار بجانبنا، بل بفعل لذّة رؤيتِها الزّهورَ المصنوعة من حرير عسليّ اللون، بالإضافة إلى بطاقات الأعياد المزيّنة بالفراشات والقوارب والفواكه. المكان ليس واسعا، وصرت أسمع حكايات المسيح ومريم والحواريين وأنا أرى نقشات من فراشات وقواربَ وفواكهَ تزيّن صور الصلب والبعث والولادة. ثمة غابة ومزرعة وقرية وألوان متداخلة. إنها لا تمثلني، فأنا مسلم أولا، وكل ما مرّ ذكرُه لا يشبهني، ولكن لا أدري لماذا يخفق قلبي عندما أنظر إليه وكأن ما أنتجته سونيا يعود لي.
لم تتزوّج بائعة الزهور حتى يومنا هذا، لكنها لا تزال فتيّة رغم أنها قاربت الأربعين، ويعود السبب في ذلك إلى أنها تعشق عملها لأنه يمنحها تحرّرا سحريّا من العدم، الذي هو ظلّ الموت ومرآته. تحضر سونيا إلى محلّ عملها في التّاسعة صباحا، وتغادره في التّاسعة ليلا، ولا تقرأ الصّحيفة أو الكتاب، والحياة ليست كتبا، وسونيا ليست دودة كتب. قال الشّيخ الصّوفي معروف الكرخي: “إذا أراد الله بعبد خيرا، فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرّا، أغلق عنه باب العمل وفتح عليه باب الجدل”.
إن العقل البشري ممتلئ بالأهواء. ثمة إشراق في قصيدة لكافافيس يصل سونيا حتما، وما تقوم به من صناعة:
«أعطني زهورا صناعيّة -مجد الزّجاج والمعدن-
بأشكال بلا ذبول، بلا فساد، بلا شيخوخة
أزهارا رائعةً مزروعة في أرض أخرى
ومصنوعةً من زجاج أو ذهب،
هباتٍ عبقريةً من يد فنّان عبقريّ
ملوّنةً في درجات أجمل من الألوان
وتستمدّ فتنتها من الذّوق الحكيم الأصفى؛
لم تنبت في القذارة والوحل
وإذا ما كانت بلا أريج، سنرشّ العطر عليها
سنحرق مُرّ الشٌّعورِ أمامها»
تبيع سونيا في دكانتها الزهور الطبيعية كذلك، وهذه مستوردة من خارج البلاد وتحتاج إلى برّاد خاصّ يحفظها كي لا تذبل، وهي على أنواع؛ الجوري والقرنفل والأبصال... نلاحظ أن لفظة “الجوري” اختفت من قاموس حياتنا، وصرنا ندعوا الزهرة باسمها الإفرنجي: روز. كتبتُ في ماضيّ البعيد قصيدة لم أنشرها في كتاب: “يا وردَ الجوري | يا شفةً وحشيةْ | يا كفّا | يا إغماضةَ عين | أحمر، أصفر، أبيض | أو لونا يشبه ضياعَ فتاةٍ وفتى | أو لونَ تشابهِ كفّين”. اللون الأخير المقصود هو الأندر، وهو البنفسجي الفاتح، والشهير باسمه المأخوذ من الفرنسية “موف”.
اقتنيت ثلاث وردات جوري “موفيّة” اللون، وقبل أن أودّع سونيا شعرتُ أنها أحسّت بمعرفتي بالتّغيّر الحاصل في المحلّ. قالت: “وسّعتُ المكان لأضمن مطبخا وحمّاما، فأنا أقضي نهاري كله وبعضا من اللّيل هنا». فكّرت في ما يمكن أن أدعوه الحال الجديد الذي صارت إليه بائعة الزّهور، ولم أجد أحسن وأبلغ من تعبير “غنى النّفس”، لأن فيه وعدا أكيدا بالسعادة.