طالب عبد العزيز
أستودَعتكَ أمُّك عند أصل كرمةٍ، وذهبت تُعدُّ الشاي لأبيك، وقد انكشفت الشمسُ عن قدميك، وهما تحفران الارض، سعيا وراءها؟ أوقفتَ تحصي العراجينَ تحت جناحها، وهي تبتسم لك في البعيد؟ أتنفستَ من رئة الارض،
وقد ارتوت بمطر البارحة، الذي وصل النهر بما جعله الوالدان فسحة للعبك وتجوالك؟ أنعمنتَ النظر في قُلَبِ النخل، وقد إزرقّت زهواً وينعاً وطفولة؟ أدنوتَ من لفافة السعف التي أحاطت الفسيل، الذي أنبتهُ شقيقُك الاكبر الربيع الماضي، وقد تفتقت عن يابسه خويصاتٌ خضرٌ، كأنهنَّ الوشمُ خيط بأذرع الاطفال، في المزارات البعيدة؟ إذا كنت ذلك كله، تعال أسمعُك ما قاله الاعرابيُّ للاصمعي، عبد الملك بن قريب، وقد فاضله في نخلِ وتمرِ أهله: " تمرنا جُرْدٌ*1 فَطْسٌ*2، يغيبُ فيه الضِّرسِ، كأنَّ نُواهُ السُن الطير، تضعُ التمرةَ في فيكَ فتجدُ حلاوتها في كعْبيك.
كان مطر البارحة فتقاً في السماء، انهمر قبل الفجر الاول، وأنت تعلم يا صاحبي أنَّ الفجر في البصرة فجران، فيما النهار واحد في كل الدنيا، والليل تقطعه أنفاس الخلق، وتلطع أنجمَه الدوابُ والهوام، ولا مجلسَ لأمثالنا، إلا ما أظله النخل وافترشته المودة، وهذه الارض تبتكر مهرجاناً لمن عليها الساعة هذه، فقد أمضيت الليلة خفيفاً، منصتاً للضوء، تطيحُ الريحُ بقرونه في شرفة المنزل، أحصي المباهج، فما واربتْ دوني باباً، ولا أقول اتقيت ستارة، ولا جانبت ريحاً، فقد كنتُ مطلق الخطوات، أتعددُ في الامكنة، وأدفع بالسعف الندي أطراف الآس، مخافة أن أضن عليه بشيء، وقد نالني من المطر ما نالني، فتبللتْ لفائفُ قطنٍ، كنت أحكمتها على كتفي، وفقدتُ عصاً، هي الثالثة، لم أتبينها في ضجّة ما تداكك وانقلب، يالهذه الليلة التي لا تنقضي بحلم، ولا تتكرر بعناق.
ولمن لا يقول في فضل أهل الماء والتمر على أهل الحجر والطابوق، ولم ينصفْ أهلَ النخل والظلال على ذهابه في السرفات، وهِجران أهله، وعلى قبح أفعال أهل الجسكارات والجرافات، أقول لك : بلغني أنَّ ابن قتيبة الدينوري، يقول في (عيون الاخبار) بأنه قيل لفرقد السَبْخي: يا أبا يعقوب، بلغنا أنك لا تأكل الفالوذج*3، فقال: يا أبا سعيد، أخاف أن لا أؤدي شُكْرَهُ !! هكذا، نحن يا صاحبي، ما أدينا شكر النخل، ولا فضل الرطب، ولا نعمة الظلال، وحالنا كذاك الاعرابي الذي قال بفضلِ العسلِ على الرُّطب، فقيل له: أتجعلُ عسلةً في أخثاء البقرِ كعسلةٍ في جوِّ السماء، لها حارس من جريد، وذوائبُ من زُمُرُّدْ؟
بين هذه وتلك هاتفني أمس، من نخيله على شط العرب، بنهر خوز، أسعد الدغمان، وهو ممن إذا شددتَ عضُدَك به أمنِت، وبعد أن طمأنني على بيته وعياله، سألته ما إذا كان في بستانه فسيل فحلٍ غناميٍّ، أغرسه، وأتامله فحلاً، أفحلُ منه إناث نخلي، فلا يخيبُ ظنّي بواحدة، فأجابني: أنْ، نعمْ. ثم جاذبني الحديث عن فحول السوء الغيبانية، الخِكْريّ منها والسمَيسَميّ، وحين أعلمته بأنَّ فحلاً خِكرياً صغيراً أطلع عندي قبل أعيانه وخلّانه، قال: سامحك الله، لا تأمنه على نخلك، هو لقاحٌ فطير، مما نمضغه لأطفالنا، ونقدّمه علفاً لأبقارنا، فإياكهُ.
*1 جرد: ناعمة *2 فطس: صغار التمر غارت أقماعه *3 الفالوذج: نوع من الحلوى