ستار كاووش
في كل دول العالم المتحضرة، يُعتَبرُ العَلَم، قطعة قماش رمزية، لا تراها الناس كل وقت، لأنها تستخدمُ في بعض المناسبات كرمز فيه شيء من الرفعة والأهمية. وفي الكثير من البلدان يمنع القانون وضع العلم كيفما أتفق على بعض البنايات والأماكن.
ولا يمكن لأحد مثلاً أن يسحب العلم عنوةً ويهرول به دون مناسبة تستحق ذلك. بل الواجب وأحياناً البروتوكول يحتم عليه أن يستعمله في الوقت والمكان المناسبين، لتبقى رمزيته وقدسيته قوية ومُهابة. العَلَم ليس حكاية نتداولها ونلوك أحداثها حسب الأهواء، وعندما تكون هناك مغالاة بإستخدامه، تُثار بذلك بعض الشكوك. وبرأيي الشخصي كل دولة تستخدم العَلَم أكثر من اللازم، فذلك يشير الى غسيل للدماغ من نوع معين.
ما دفعني لقول ذلك هو رؤيتي لصورة يظهر فيها العَلَم العراقي ملفوفاً على جزء من نصب الحرية وسط بغداد! وهذه إساءة للعلم والنصب في ذات الوقت. فنصب الحرية هو عمل فني معروف للجميع، ويرمز الى حالة أو حالات معينة تخص البلد، إذن هو رمز من رموز هذا البلد، فكيف نجلب رمزاً آخراً ونعلقه عليه؟ ثم إن هذا النصب يعتبر أهم عمل فني في تاريخ العراق الحديث، وبدلاً من ترميمه وصيانته بشكل دوري، جَعَلَهُ البعض مشجباً يُعلق عليه العَلَمَ مرة والمصابيح مرة أخرى… وهكذا.
في الصورة التي شاهدتها، يظهر نصب الحرية، وقد تَدَلّى من إحدى منحوتاته، طَرَفَيْ عَلَمٍ عراقي طويل الشكل، عَلَمٌ إلتفَّ على جزء من هذا النصب بطريقة بائسة، ويبدو انه قد ثُبِّتَ بمسامير على ذراعي منحوتة الجندي، دون مبالاة بقيمة النصب. ومن قام بذلك قَلَّلَ من قيمة العَلَم كرمز، لأنه إستخدمه بطريقة ساذجة، كذلك شَوَّهَ النصب وحالَ دون رؤيته بشكل جيد. وإن كان الوصول الى مفردات النصب متاحاً بهذه السهولة، فلماذا إذن لا تتم صيانته والإهتمام به وترميم جداره المتصدع؟ أم المهم هو استخدامه كأي عمود أو شماعة في الشارع؟ هل كان جواد سليم متوقعاً حدوث ذلك؟ وأقصد تعليق أشياء على عمله النحتي ليس لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بتصميمه ومحتواه الفني. هل هذه هي مكافئة أهم عمل أبداعي عراقي في التاريخ الحديث؟ ولا أدري ان من قام بذلك يعرف إن كان هذا عملاً فنياً وحسب، وليس صولجاناً لتعليق الأعلام ورفرفة الأيديولوجيات مهما كان نوعها.
لا تقللوا من قيمة العَلَم العراقي بهذه السذاجة، ولا تهينوا العمل الفني بهذا الإزدراء. فالعَلَم أهم من أن يُعَلق بهذه الطريقة البائسة، والعمل الفني أعمق من أن يستخدم كشماعة…حتى لو كانت لِعَلَمِ البلد. وكما أن كل شيء في الحياة له دوره، فالعَلَم له دور معين ولا يمكن التنطط به هنا وهناك بحجة الانتماء للبلد. أنتَ داخل البلد، فلمن إذن تريد أن تُري العلم؟ والكُلُ في الداخل يعرفون إن هذا هو علم بلدهم. فلا داعي لتعليقه في مكان بعيد عن المهمة التي صُنِعَ من أجلها.
كان الأحرى أن يُنَظف النصب وتُصَلَّح الثقوب والثغرات التي فيه، لا أن نحفر ثقوباً جديدة وندق مساميراً على جسد النصب، مسامير كإنها تشير الى موته، فهو ليس نعشاً ولا شجرة في حديقة عامة. انه أجمل ما أنجزه العراق في مجال الفن. إنه جوهرة إبداعنا التي جعلناها رخيصة بهذه التصرفات.
جواد سليم يجعل الجندي في النصب يكسر القيود طلباً للحرية، ويأتي شخص جاهل يدق المسامير في جسد هذا الجندي، كي يُعلق العلم الذي يُطالب ذات الجندي بالدفاع عنه!! أية أُحجية هذه؟ وأي إفتراء وإمعانٍ في أذلال قيم الجمال وتاريخ البلد؟
جميع التعليقات 1
محمد حميد مجيد
أحسنت. متابعة مفعمة بالدقة والعمق.