TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: مسمار في نعش جواد سليم

باليت المدى: مسمار في نعش جواد سليم

نشر في: 6 فبراير, 2022: 11:17 م

 ستار كاووش

في كل دول العالم المتحضرة، يُعتَبرُ العَلَم، قطعة قماش رمزية، لا تراها الناس كل وقت، لأنها تستخدمُ في بعض المناسبات كرمز فيه شيء من الرفعة والأهمية. وفي الكثير من البلدان يمنع القانون وضع العلم كيفما أتفق على بعض البنايات والأماكن.

ولا يمكن لأحد مثلاً أن يسحب العلم عنوةً ويهرول به دون مناسبة تستحق ذلك. بل الواجب وأحياناً البروتوكول يحتم عليه أن يستعمله في الوقت والمكان المناسبين، لتبقى رمزيته وقدسيته قوية ومُهابة. العَلَم ليس حكاية نتداولها ونلوك أحداثها حسب الأهواء، وعندما تكون هناك مغالاة بإستخدامه، تُثار بذلك بعض الشكوك. وبرأيي الشخصي كل دولة تستخدم العَلَم أكثر من اللازم، فذلك يشير الى غسيل للدماغ من نوع معين.

ما دفعني لقول ذلك هو رؤيتي لصورة يظهر فيها العَلَم العراقي ملفوفاً على جزء من نصب الحرية وسط بغداد! وهذه إساءة للعلم والنصب في ذات الوقت. فنصب الحرية هو عمل فني معروف للجميع، ويرمز الى حالة أو حالات معينة تخص البلد، إذن هو رمز من رموز هذا البلد، فكيف نجلب رمزاً آخراً ونعلقه عليه؟ ثم إن هذا النصب يعتبر أهم عمل فني في تاريخ العراق الحديث، وبدلاً من ترميمه وصيانته بشكل دوري، جَعَلَهُ البعض مشجباً يُعلق عليه العَلَمَ مرة والمصابيح مرة أخرى… وهكذا.

في الصورة التي شاهدتها، يظهر نصب الحرية، وقد تَدَلّى من إحدى منحوتاته، طَرَفَيْ عَلَمٍ عراقي طويل الشكل، عَلَمٌ إلتفَّ على جزء من هذا النصب بطريقة بائسة، ويبدو انه قد ثُبِّتَ بمسامير على ذراعي منحوتة الجندي، دون مبالاة بقيمة النصب. ومن قام بذلك قَلَّلَ من قيمة العَلَم كرمز، لأنه إستخدمه بطريقة ساذجة، كذلك شَوَّهَ النصب وحالَ دون رؤيته بشكل جيد. وإن كان الوصول الى مفردات النصب متاحاً بهذه السهولة، فلماذا إذن لا تتم صيانته والإهتمام به وترميم جداره المتصدع؟ أم المهم هو استخدامه كأي عمود أو شماعة في الشارع؟ هل كان جواد سليم متوقعاً حدوث ذلك؟ وأقصد تعليق أشياء على عمله النحتي ليس لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بتصميمه ومحتواه الفني. هل هذه هي مكافئة أهم عمل أبداعي عراقي في التاريخ الحديث؟ ولا أدري ان من قام بذلك يعرف إن كان هذا عملاً فنياً وحسب، وليس صولجاناً لتعليق الأعلام ورفرفة الأيديولوجيات مهما كان نوعها.

لا تقللوا من قيمة العَلَم العراقي بهذه السذاجة، ولا تهينوا العمل الفني بهذا الإزدراء. فالعَلَم أهم من أن يُعَلق بهذه الطريقة البائسة، والعمل الفني أعمق من أن يستخدم كشماعة…حتى لو كانت لِعَلَمِ البلد. وكما أن كل شيء في الحياة له دوره، فالعَلَم له دور معين ولا يمكن التنطط به هنا وهناك بحجة الانتماء للبلد. أنتَ داخل البلد، فلمن إذن تريد أن تُري العلم؟ والكُلُ في الداخل يعرفون إن هذا هو علم بلدهم. فلا داعي لتعليقه في مكان بعيد عن المهمة التي صُنِعَ من أجلها.

كان الأحرى أن يُنَظف النصب وتُصَلَّح الثقوب والثغرات التي فيه، لا أن نحفر ثقوباً جديدة وندق مساميراً على جسد النصب، مسامير كإنها تشير الى موته، فهو ليس نعشاً ولا شجرة في حديقة عامة. انه أجمل ما أنجزه العراق في مجال الفن. إنه جوهرة إبداعنا التي جعلناها رخيصة بهذه التصرفات.

جواد سليم يجعل الجندي في النصب يكسر القيود طلباً للحرية، ويأتي شخص جاهل يدق المسامير في جسد هذا الجندي، كي يُعلق العلم الذي يُطالب ذات الجندي بالدفاع عنه!! أية أُحجية هذه؟ وأي إفتراء وإمعانٍ في أذلال قيم الجمال وتاريخ البلد؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. محمد حميد مجيد

    أحسنت. متابعة مفعمة بالدقة والعمق.

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram