طالب عبد العزيز
في مكتباتنا الشخصية الكثير من الكتب، التي أرى أننا بحاجة الى إعادة قراءتها، ثانية، وثالثة ربما، فالقراءة مثل فعل الكتابة، بحاجة الى تحديث دائم، وإذا كنا قد قرانا كتاباً ما ذات يوم، ثم ركناه بعيداً، فستكون قراءتنا اللاحقة بمثابة عادة اكتشاف له، أو تجديد للحظة كتابته، وقد يستوقفنا فيه ما لم يستوقفنا من قبل. وهذا كتاب (متاهات- نصوص وحوارات في الفلسفة والأدب) الذي ترجمه حسونة المصباحي، وصدر عن دار الشؤون الثقافية في بغداد عام 1990 يستوقفني ثانية، فهو واحد من أجمل إصدارات الفترة تلك.
وعلى تباين مواد الكتاب بين الفلسفة والادب، لكن، بما أنني مازلت مفتونا ببورخيس، فقد جعلني الفصل الخاص به، والذي خصصه للحديث عن الف ليلة وليلة، أذهب الى الكتاب الساحر هذا، مأخوذاً بذاك السحر، الذي رجَّ الخيال اللاتيني باجمعه، قلب ميزان الثقافة الغربية، فهو يقول إنَّ: “اكتشاف الأممُ الغربية للشرق يمثّل حدثا هائلاً واساسياً في تاريخها” والجملة هذه تخصُّ الشرق العربي الاسلامي قطعاً، قبل أن تخصَّ الشرق الآسيوي(الصين واليابان والكوريتين وجنوب شرق آسيا) بل جاءت بفعل الاثر الناتج عن ترجمته الى الفرنسية عام 1704 .
وكعادته يعمل بورخيس على نسج الوشائج التي تبدو مستحيلة، فقد راح يقرن حضور أثر ( الليالي العربية) بحضور الاثر الفارسي في التاريخ الاغريقي، يوم تاه الاسكندر المقدوني- لم يمت في بابل عنده- إنما تاه في الصحارى والغابات، باحثاً عن النار التي الهبها الشرق في روحه، هو الذي سمّاه العرب المسلمون بذي القرنين، لإمتلاكه الغرب والشرق، والذي كان يضع تحت وسادته الالياذة وسيفه، ظل مفتونا بالشرق، الذي أحبّه حتى انه كفَّ أنى يكون إغريقياً، ليصبح فارسياً.
ومعروف أنَّ تسمية الكتاب(الف ليلة وليلة) تذهب الى اللانهائي، وغير المحدود، وهي لعبة كتابية شرقية وعربية، تنهل معانيها من غرائبية الشرق وسحره، وإنطوائه في الآماد، جغرافياً لتطويقه بالصحراء، ودينياً في كونه منبت الاديان الثلاثة، حيث لا يبدو الكتاب إلا مستلاً من ثنائية الصحراء والشمس الأولى والميثولوجيا العربية الاسلامية، الامر الذي جعل منه كتابا ساحراً، ويكفي أن يكون قد أثر باسمين كبيرين (بايرون وهوجو) وهذا كيبلنغ يقول:” إذا سمعت بنداء الشرق فانك لن تسمع أيَّ نداء آخر” وليس ببعيد عن ذلك ما يقولوه الالمان فهم يقولون: بأنَّ الشرق أرض الصباح والغرب تعني أرض المساء.
ومثل معظمنا المأخوذين بالكتاب الساحر هذا، يقول بورخيس بأنه يحتفظ في مكتبته بسبعة عشر مجلداً من الف ليلة وليلة، بترجمة بريتون، وهو يعلم مثلنا أيضاً، بأنه لن يقرأها كلها، لكنه على يقين بانها تنتظره، وبين الاحتفاظ بالمجلدات وانتظار قراءتها وإتمامها يكمن سرٌّ من أسرار الكتاب، هذه السردية المذهلة التي سيظل على أبدية لا نهائيته، غائرةً في الزمن، على خلاف الكتب كلها، نستعيد قراءتها، كلما وجدنا في الزمن بقية لنا، فالزمن غير معروف أيضاً، حيث أننا بتعبير بورخيس نعرفه إذا لم نُسألْ عنه، ولا نعرفه إذا سؤلنا عنه !! مادة الكتاب(متاهات) عن الف ليلة وليلة جعلتني أقفز من زمني الموقوف على الطاولة إلى زمني المخبوء في أرفف المكتبة، لأعيد فيه قراءة ما قرأته قبل عشرين أو ثلاثين سنة، أو ما لم أقرأه، ربما، فالزمن في الف ليلة وليلة مازال مفتوحاً على أبدية الكتابة والقراءة والتأويل.
جميع التعليقات 1
عباس الخالدي
أنت من الغيارى الذين يمسحون غبار الإهمال عن كنز الأبدية هذا. بوركت.