طالب عبد العزيز
1
بعد كلِّ أوبة للبيت يجد عباس الراضي أنَّ زوجته طبخت له مرق الباميا مع الخبز، يسميّه (تليت) هو يتجنب قول (ثريد) لأنَّ اللثغة بالراء في لسانه تزيده تطرفاً في عصبيته.تكرر المشهد طوال فصل الصيف،
فهي لا تجد ما تأتدم خبزه به غير ما يغرسه، حتى باتت رائحة مرق الباميا دالته الى بيته، في الليالي الحالكات المظلمات. ولما دخل الشتاء عليهما، راحت تفك قلائد الباميا المجففة من تشابك خيوطها، وتطبخها له. بلغ حنقه حدَّه، فهو يسمع عن السمك في السوق والشط القريب، لكنه لم يذقه من سنة، ويشم رائحة اللحم في بيت جيرانه لكنه لا يراه، وتتشرب الطعوم والروائح في مسامات جسده لكنه ظل يصارع كراهيته للباميا. في خريفه الماضي، وفيما كان عائداً من عمل مرهق، في بساتين بعيد، سأل خديجة ما إذا أحدهم، وبمناسبة العاشوراء، قد أهدى لهم شيئاً من رز ولحم. أجابته أنْ بلى: لقد جاءوا لنا برز ولحم مع مرق باميا، وقبل أن تكمل جملتها صاح بها حانقاً: هم باميا؟ الله أكبر. ولأول مرة دوّى حرف الراء الملثوغ في أودية البيت وأثاثه، ودون أن يبالي بعواقب ذلك، حمل منجله الى حقل الباميا، الذي غرسه قبل شهر، وأتى به على كل ما غرس وقارب الجني.
2
في العام 1916 شَهِدَ عثمانُ مع والده الشيخ حسين دخول الجيش البريطاني البصرة، وحين دكت المدفعية مخزن الفحم الحجري، خلف قبّة عبد الله بن علي، والذي ظلَّ يزود سفن الحربية التركية بالوقود، حتى نهاية آذار، لم يستطع أن يلحق بوالده، الذي عبر جسر مناوي باشا مسرعاً الى الخورة، حيث لم يكن ليتجاوز سنيه العشر بشهر أو شهرين.
في شتاء العام 1985 بلغ عمرُ الحربِ مع إيران خمس سنوات، وفي معركة شرق البصرة التي لم تكن الاخيرة، لم تتمكن عجلاتُ مدافع الايرانيين من الخروج الى اليابسة، ظلت اسيرة أنهار الشلامجة والبوارين والخرنوبية الكثيرة هناك، فشاخت في الوحول، قبل أن تبلغ المدافع أهدافها، ومثل من يقطع أرجل أبي الاربعة والاربعين، انحلت عُقدُ سرفاتِ الدبابات، واحدة بعد الاخرى. لكنْ، في شتاء العام 1986 طالت فوهات مدافعهم أكثر مما يجب، حتى أنها بلغت قرية نهر خوز، التي على شط العرب.
في السنة هذه، سيكون الحاج عثمان قد بلغ خمساً وثمانين سنة وأربعة أشهر. وفيما كان متمدداً على سريره ذات يوم، أمرابنه بغرس فسيل القنطار، الذي فطمه عن أمّه أمس، قال لعلَّ العمر يُدركنا فنأكل منه. يقول حفيدُه إبراهيم: أجلسني جدّي على ضفة نهرٍ منبتر، وهو يضفرُ وشيعةَ خوص، فتكونُ حبلاً، وحين سألته عن سنوات إثمار الفسائل أعلمني بأنَّ فسيلَ القنطارمئخارٌ، لا يأتي ثمره إلا بعشرة أعوام بلياليها ونهاراتها. انتهت الحربُ، وعلى ضفة النهر ذاك، أتيت جدي بقوْصَرّة من ثمره، فأكل. لم يبلغ جدّي المئة بعد إذاك.
3
قلتُ له: اتركها يا حاج، لا تصعدها. هي مما تركناه من سنوات ثلاث، فقد طالت، وشاخت، ومال رأسُها، وغرسنا تحتها فسيلا، هو اليوم نخلة تثمر، فما حاجتنا بعيطاء هرمة، عوجاء، والنخل كثير. فقال: لا، البركة في الطوال، فهنَّ الاقرب الى السماء، والمجاب تحتهنَّ الدعاء!! فعجبتُ من تأنيثه للنخلة، ثم أنه لفَّ فرونده عليها، وفي لحيظات صار في قُلّبتِها، فهو يقذف بالكرانيف، ويطيح بالكرب والليف، فيكشف من علوّه هناك عن سماء زرقاء مشمسة، وهكذا راح يُسقط ما يبس وجفَّ من القِنوان والعراجين والشماريخ الميتة، في السنوات الثلاث الماضيات.
الحاج محمد لا يقسم بالله العظيم أبداً، ولا بنبيٍّ مرسل، ولا بضريح وليٍّ مقصود أو مهمل، فحديثه اليقين كله، والدال على قوله وفعله. لا يأخذه بالوفاء طمع في مال، ولا ينصرف بكله الى طعام أو شراب. دابّته إلى المسجد قدماه، وقيلولته على النهر، وفي يشماغه تغفو أسراب العصافير. يترفق بالحلفاء إذا أسرع الى أحدنا، ويميل برأسه عند كل سعفة، لم يربِّ بلبلاً في قفص، ولم يسقط نخلةً ما بلغت في السماء، ولا يتعقب ثعلباً، ولا يجري وراء أفعى، وحين أتى بمنجله، من غفلة، على غصين توت صغير، سمعته يبكي. في زحمة الخلق، هناك من ما زلنا بحاجة الى الاحتماء بقلوبهم.