د.قاسم حسين صالح
من (42) سنة،والعراقيون يعيشون الفواجع والأحزان..حروب كارثية حمقاء راح ضحيتها ملايين بين قتيل وأسير ومفقود ومعاق..
حصار 13 سنة أكلوا فيه خبز النخالة المعجون بالصراصر، حروب طائفية واخرى داعشية، وحكّام وسياسيون أشاعوا الكراهية،وقتلوا مئات الشباب في 2019 وحدها،ونهبوا المليارات وافقروا 13 مليون في بلد يعد الأغنى في المنطقة،وما يزالون في (2022) يعقدون الصفقات ليعيشوا المزيد من الرفاهية (والشعب يطبه طوب!).
ومع كل هذه المصائب التي ما عاشها شعب معاصر فأن ما يدهشك و يعجبك في العراقيين ان قلوبهم في الحب تبقى برغم ان مصائبهم مسلسل تراجيدي بلا نهاية، تتخللها حكايات اجمل من حكايات الف ليلة وليلة، شهدنا واحدة منها ولا أجمل. ففي وثبة شباب وشابات تشرين، تقدم شاب في ساحة التحرير نحو شابة..ركع أمامها ومدّ يده نحوها وبين أصبعيه خاتم خطوبة!. وبالمقابل وفي السنة نفسها،كان هناك حفل توقيع كتابي (سيكولوجيا الحب) في معرض بغداد الدولي للكتاب والى جانبي مجموعة من المحبين بينهم الصديق مفيد الجزائري،وجاء معمم (أشقراني) سياسي قيادي وعضو برلمان ومعه حمايته..مرّ من أمامنا..نظر واجتاز..فقلت له: مولانا،تفضل أخذ هذا الكتاب هدية مني..اقرؤه وتعلموا الحب!..فخجل ودفع ثمنه لصاحب المكتبة.
قد يكون تفسير حب العراقيين للحب يكمن في جيناتنا،فالذي اعرفه أن أول آلة قيثارة وأول عود وأول نص غنائي..كانت من صنع السومريين،ما يعني أن اجدادنا السومريين هم اول من عزفت اوتار قلوبهم للحب وغنت له،وأننا ورثناها منهم..ام ياترى أننا ورثناها من مجنون ليلى الذي خفق قلبه لها لحظة راى الرماح وهو في ساحة الحرب فانشد قائلا:
(فوددت تقبيل السيوف لأنها.. لمعت كبارق ثغرك المتبسم)
أم عن جميل بثينة الذي ما احب سواها وحفظ سرها:
(لا لا ابوح بحب بثنة،انها اخذت عليّ مواثقا وعهودا)
أم عن الوسيم الرومانسي عمر ابن ربيعة الذي له قلب يسع من الحبيبات ما لا تسعه سيارة “كوستر!»:
) قالت الكبرى اتعرفن الفتى؟ قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر)
أم انهم غرائزيون على طريقة رؤبة بن العجاج:
(واها لسلمى ثم واها واها، ياليت عيناها لنا وفاها)
أم رقيقون شفافون مثل ابي صخر الهذلي:
(واني لتعروني لذكراك هزّة كما انتفض العصفور بلله القطر)
الحق اقول انهم موزوعون بين هذا وذاك،وأن كل واحد منهم هو (فالنتين عراقي) على طريقته الخاصة،مع ان قصة فالنتين ما كانت لها علاقة بالحب العاطفي. فأصل الواقعة ان الامبراطور الروماني..كلوديوس الثاني اصدر قانونا يمنع الرجال في سن الشباب من الزواج بهدف زيادة عدد افراد جيشه لاعتقاده ان الرجال المتزوجين ليسوا كفوءين.وتذكر “ الأسطورة الذهبية” التي أوردت القصة،ان القسيس فالنتين قام باتمام مراسيم الزواج للشباب في الخفاء. وحين اكتشف الامبراطور ذلك أمر بالقاء القبض عليه واودعه السجن.وتناقلت الروايات ان فالنتين قام بكتابة اول “ بطاقة حب” بنفسه في الليلة التي سبقت تنفيذ حكم الاعدام فيه أهداها الى حبيبة إفتراضية موقعا اياها باسم “من المخلص فالنتين».
تلك هي الواقعة،لا كما يظن كثيرون انها بين اثنين من العشاق،لكنها شاعت بين الناس لسبب سيكولوجي أزلي خلاصته..ان الانسان لديه حاجة الى ان (يحب وينحب).ولقد انشغل الفلاسفة في تفسير تلك الحاجة الى جانب علماء النفس مثل فرويد في تفسيره (لغريزة الحب) واريك فروم في كتابه (فن الحب)،فوجدوا ان سبب الحب هو حاجة الانسان الى (التعلّق) بشخص او جماعة او وطن.ومع انهم عدّوا الحب من اجمل الفضائل..فاننا نرى ان الحب هو (خيمة) الفضائل كلها..لأن الحب يقضي على شرور النفس وامراضها..فان تحب فهذا يعني انك لا تكره،وانك تتمنى الخير للآخرين،فضلا عن ان الحب يجلب المسرّة للنفس والناس ويجعلك تحترم حتى الطبيعة وتعمل على ان تجعلها جميلة.
وبالصريح،لا يوجد شيء في الدنيا اجمل واروع من الحب،لأن الحب هو الفرح،هو النضج..هو الكمال..هو اليقين بأنك موجود..باختصار،الحب هو الجنة التي يأتي بها الحلم الى الدنيا لتعيش فيها آدميتك كأنسان،ولهذا فانه صار شعار كل الاديان الذي دفعهم الان الى تخصيص يوم عالمي باسم(اليوم العالمي للوئام بين الأديان).
لقد صار يقينا ان العراقيين موصوفون بالحب،وما يجعلك تفرح..تغني..تثق بأنهم صنّاع حياة، انك تراهم يتفننون في التعبير عن (عيد الحب).فبرغم ان (2018) كانت من افشل سنوات حكم أحزاب الأسلام السياسي،فانهم طرزوا شوارع بغداد،وزينوا متنزه الزوراء بتشكيلة فنية من سبعة قلوب كبيرة محاطة بورود حمراء،وظل العراقيون كعادتهم يتبادلون:دارميات جميلة..بوسات عراقية..بطاقات ملونة..هدايا للزوجة..للأم..للحبيبة، دبدبوب ابيض واحمر،ورود حمراء..ارتداء ملابس حمراء مزركشة..تزيين المحلات بباولونات ملونة،معجنات بقلوب حمراء عليها اجمل الكلمات (أحبك)..والأروع،انك لو دخلت قلوبهم لوجدتها باقة ورود ملونه..مكتوب عليها بالأحمر: نحبك..يا عراق!