TOP

جريدة المدى > عام > تجاوز الحدود: ما يمكن أن تفعله رواية واحدة !

تجاوز الحدود: ما يمكن أن تفعله رواية واحدة !

نشر في: 16 فبراير, 2022: 12:07 ص

لطفية الدليمي

كتب إيتالو كالفينو مرّة بشأن الأدب مصرّحاً بإمكانية انتقاد الطموح المفرط في ميادين عدّة إلا في ميدان الأدب. سوّغ كالفينو أطروحته هذه بأنّ الأدب لايحيا إلا إذا سعى لأهداف عالية السقوف وصعبة المنال ؛ بل وحتى قد يتعذّر بلوغها،

ورأى كالفينو أنّنا - منذ أن تخلى العلم عن الأطروحات الكلية الكبرى مدفوعاً بعنصر الفلسفة الارتيابية التي جاءت مع نظرية الكم - لم يعُد من ملاذ أمامنا سوى الأدب نستعين به في كيفية نسج المعارف والخبرات البشرية المتعددة في نسيج واحد تتبلورُ فيه رؤية مشتبكة ومعقّدة للعالم.

أرى أنّ كالفينو نجح في رأي وجانب الصواب في آخر: نجح في رؤيته أنّ الأدب صار ملاذاً نستعينُ به في كيفية صهر الخبرات والمعارف البشرية في نسيج واحد كلي يساعدنا في دفع مديات رؤيتنا المشتبكة والمعقّدة للعالم ؛ لكني من جانب آخر لاأراه كان موفقاً في رؤيته للعلم عندما ظنّ أنّ العلم صار يبحث في الجزئيات الصغيرة وتخلّى عن مسعاه الملحمي في بلوغ رؤى كبرى للعالم. ربما كان كالفينو مسكوناً بالجدالات الصراعية التي إكتنفت بواكير نظرية الكم في عشرينيات القرن الماضي وبضعة العقود التالية، والتي نجم عنها صعود نجم التفسيرات الإحتمالية للأسس الفلسفية لنظرية الكم ؛ لكنّ هذا لايعني انكفاءً عن السعي نحو رؤى شاملة معبراً عنها بنظم ديناميكية معقدة تصف أعقد المنظومات المجتمعية والفيزيائية والحيوية.

لنترك العلم وأسسه الفلسفية ومساعيه الملحمية الآن ونقصر حديثنا عن الأدب (الرواية تحديداً). ماذا عن السعي الملحمي للرواية؟ يلاحظ المتابع الشغوف للكلاسيكيات الروائية أنها اجتهدت لبلوغ معرفة دقيقة وشاملة لكلّ الانماط البشرية السائدة في العالم، ثمّ جاءت حقبة الحداثة الروائية التي حلّ فيها نوعُ من التركيز على الجزئيات المشهدية الدقيقة في العالم فضلاً عن تقنيات سردية مستجدّة (تيار الوعي مثالاً)، ثم حلّت انعطافة مابعد الحداثة الروائية التي جعلت من التشظّي الكامل والشامل للزمان والمكان والوعي البشري عنواناً عريضاً لها. مع بداية القرن الحادي والعشرين صارت الذائقة الروائية العالمية تتبدى في حقيقتين إثنتين: الأولى أنّ الرواية جسمٌ معرفي قادر على احتواء أي شيء وكل شيء في الخبرة البشرية، والثانية تكمن في ضرورة مغادرة ميدان العبثيات الشكلانية والسردية، وفي الوقت ذاته توظيف الفن الروائي بطريقة عملية تتيحُ نقل الخبرة المركّزة للآخرين من غير القادرين على ( أو الراغبين بِـ) معرفة أساسيات التغيرات السياسية والعلمية والتقنية والاقتصادية التي طالت العالم في عصر عولمي متغوّل ومفتوح على سيناريوهات صراعية مخيفة. صارت الفلسفة والرياضيات والفيزياء والسيرة الذاتية وحكايات المنفى وسياسات الهوية والذاكرة والهجرة والنسوية واللامساواة المجتمعية والاقتصادية، والعِرق والطبقة والتراتبيات المهنية والاجتماعية،،،،، كلها موضوعات يمكن أن تتداخل بطريقة إبداعية في عمل روائي لمن يقدر من الروائيين الشغوفين على هذا النوع من المداخلة المعرفية المشتبكة.

يمكنُ للقارئ المتابع لخارطة الرواية العالمية أن يلحظ حقيقة أحسبها صارت واضحة تماما – تلك هي أنّ الروائيين المنتمين إلى جغرافيات توسم بأنها « الهوامش الثقافية « (طبقاً للنظرية الكولونيالية الكلاسيكية) صاروا يحققون إنجازات روائية نوعية غير مسبوقة حتى بالنسبة لأكابر روائيي المراكز الثقافية للعالم الأوّل. هناك أسبابٌ كثيرة وراء هذه الحقيقة ؛ لعلّ أهمّها ثراء الخبرات البشرية التي يحوزها الكُتّاب المنتمون لهوامش ثقافية بسبب مؤثرات المنفى واللغة والذاكرة المتفاعلة مع بيئات جديدة.

أحدُ هؤلاء الروائيين هو ضياء حيدر رحمن Zia Haider Rahman، البنغلاديشي الذي يصفُ نفسه بأنه وُلدَ في « ركنٍ من أحد الأركان القصية المنسية في العالم «. هاجرت عائلة رحمن إلى بريطانيا وهو لم يزل صغيراً حيث سكنت أول الأمر في مبنى صغير مهجور، وعمل أبوه سائق حافلة في حين عملت أمه خياطة. يصف رحمن حياته في بواكير شبابه في بريطانيا بقوله « نشأتُ في الفقر وسط أسوأ الظروف التي يتخيلها المرء في بلدٍ يوصفُ إقتصاده بالمتقدّم «. أبدى رحمن تفوقاً واضحاً في دراسته ؛ الأمر الذي أهّله للإلتحاق بكلية باليول في جامعة أكسفورد ومنها حصل على مرتبة الشرف الأولى في الرياضيات، ثم واصل دراسته المتقدّمة في الرياضيات والإقتصاد والقانون في جامعات ييل وميونخ وكامبردج، عمل بعدها لفترة وجيزة في قطاع الإستثمار بمصرف غولدمان ساكس في نيويورك قبل أن ينصرف للعمل كمحامٍ للشركات المالية ثم في حقل حقوق الإنسان العالمية، وقد ركّز على موضوعة الفساد المتفشي في أفريقيا.

نشر رحمن روايته الأولى (في ضوء مانعرفه In The Light of What We Know) عام 2014، ونُشِرت ترجمتها العربية حديثاً عن دار الجمل، بترجمة أنيقة متقنة أنجزها الدكتور علي عبد الأمير صالح المعروف بغزارة ترجماته وتنوّعها وانفتاحها على أطياف واسعة من الموضوعات وشمولها لجغرافيات متنوّعة في العالم. ربما تتوجبُ الإشارة إلى أنّ هذه الرواية ترجِمت إلى لغات عديدة، كما لقيت إطراءً نقدياً من جانب نقّاد مميزين، أذكر منهم: الناقد جيمس وود الذي كتب عنها في مطبوعة النيويوركر، والروائية جويس كارول أوتس التي تناولت هذه الرواية بمادة نقدية ممتازة في مراجعة نيويورك للكتب.

رواية (في ضوء مانعرفه) رواية ضخمة تقاربُ الثمانمائة صفحة، ويمكن وصفها - بطريقة الاستعارة المجازية - بأنها (رواية كلّ شيء) ؛ فهي نزهة فكرية تستلهمُ مقولة كيركيغارد: « الحياة لايمكن فهمها إلا بالنظر إلى تأريخنا السابق ؛ لكن المعضلة فيها هي وجوبُ عيش ماسيأتي منها «، وواضحٌ من هذه المقولة أنها تستبطن ثنائية متعارضة: فهم الحياة المعاشة لايأتي في اللحظة الراهنة بل مع الزمن السابق، وربما وحدهم الرؤيويون أو أصحاب المواهب الخاصة هم من يستطيعون فهم القادم بطريقة مقبولة.

يقومُ هيكل الرواية على مقاربة مباشرة لكنها معقّدة في الوقت ذاته: يصلُ بطل الرواية منزل السارد في كينسنغتون عام 2008، وهو محبطٌ، مفلسٌ، ليس له إلا قصة خاصة به ليحكيها. كان الصديقان القادمان من جنوب شرق آسيا قد وطّدا أواصر الصداقة بينهما عندما كانا طالبَيْ رياضيات في أكسفورد، وهناك (أي في أكسفورد) تلاشت التشابهات بينهما في حين إنبثقت الإختلافات بدرجة كبيرة.

تقود الحياة المميزة - المطبوعة بخصيصة كوسموبوليتية - السارد (الذي نشأ وسط عائلة باكستانية أكاديمية) إلى بيئات أكاديمية نخبوية: إيتون، برينستون، أكسفورد، ثم إلى عالم المشتقات المالية والتعامل مع الرهون العقارية عالية المخاطر في مصرف إستثماري، وقد قاده النجاح الصاروخي في هذه المهنة ليكون مثالاً للنجاح في عصر السياسات المالية المستحدثة في العالم النيوليبرالي المتغوّل، ثمّ صار المثالَ الكريه للسقوط المدوّي إبان الأزمة المالية العالمية عام 2008.

صديق السارد، بطل الرواية ظفار (وفيه ملامح كبيرة حد التطابق مع الروائي حيدر نفسه)، نشأ في كنف والديْن مسلمين في عائلة بنغلاديشية ذات أصول فلاحية هاجرت لبريطانيا، ثمّ صار ظفار رياضياتياً لامعاً، ومكّنته قدراته الرياضياتية التحليلية الرفيعة من شقّ طريقه إلى وول ستريت ومن ثمّ العمل القانوني الخاص بحقوق الإنسان.

الرواية – على ضخامتها – هي في جوهرها سردٌ للملاحظات التي سجّلها السارد والتي نجمت عن مناقشات مستفيضة دامت ثلاثة شهور أتيح فيها للسارد معاينة دفاتر يوميات ظفار التي طفحت بشعور الإغتراب والغضب واليأس ؛ وبهذا يمكن اعتبار الرواية توليفة كولاجية من حكايات واستطرادات متشظية وتأمّلات. نقرأ في الرواية عن موضوعات المنفى والوطن، الاجتثاث من الجذور والإنتماء إلى مكان النشأة الأولى، الاستعمار ومابعد الاستعمار، الرياضيات والفن، الايمان والشك، الشرق والغرب، الجغرافية السياسية والاقتصاد النيوليبرالي، أمريكا وأفغانستان، الاغنياء والفقراء، المحرومين والأقوياء المتمكّنين، المهاجر الذي صار بريطانياً والبريطاني الأصلي، واشنطن وكابول، نظرية عدم الاكتمال في الرياضيات،،، ؛ لكنّ الموضوعة (الثيمة) التي تتقدّم على كلّ شيء وتطغى على كل شيء هي العِرْق والطبقة. تكشف لنا هذه الخارطة الفكرية لموضوعات الرواية جانبها الملحمي وكونها رواية أفكار Novel of Ideas، وقد ساهم الجهد الدؤوب للروائي في تعزيز الرواية بتضمينات من المُعْتَمَد Canon الثقافي الغربي فضلاً عن الشروحات والهوامش المستفيضة في تأكيد كونها رواية أفكار مميزة.

جاءت رواية (في ضوء مانعرفه) مثالا لرواية مدهشة تفتحُ أمام العقل الغربي نافذة لرؤية عالمٍ جديد، وهي بهذا التوصيف تؤكّد ملاحظة الروائي في. إس. نيبول، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، عندما كتب بأنّ الأدب الهندي (وأدب جنوب شرق آسيا بعامة) المكتوب بالإنكليزية هو أدبٌ يبعثُ على الإدهاش ؛ إذ لم يحصل في التأريخ الأدبي أن كتب روائي رواية عن شعبه لكي يقرأها شعبٌ آخر (أي بمعنى لكي يقرأها الغربيون). الحقّ أنّ هذه الرواية هي بمثابة عين ثالثة نرى بها العالم سواءً كان القارئون غربيين أم سواهم. إنها تجربة تخصُّ الوجود البشري أينما كان.

رواية (في ضوء مانعرفه) عملٌ قادر على جعلنا نفهم العقد الماضي من القرن الحادي والعشرين بكلّ صراعاته الجغرافية / السياسية، والكيفية التي إختبر بها الأفراد ضعيفو المقدرة هذه الصراعات ومفاعيلها المعقّدة في حيواتهم. أظنّ أنّ تجربة رحمن الحياتية تتماثلُ إلى حد بعيد مع تجربة إدوارد سعيد، الذي كان هو الآخر أحد المفكّرين اللامنتمين لرهط الإنتلجنسيا العالمية، ويكمن عنصر المماثلة الفكرية بين الإثنين (رحمن وسعيد) في أنهما عاشا تجربة منفى فريدة حيث كان كلّ منهما يفكّرُ بلغة ويكتب بأخرى ؛ لكن لن نتناسى بالطبع الفرق الجوهري بين التحدّر العائلي لسعيد وامكانات عائلته المالية والطبقية التي تتمايز كثيراً عن مثيلاتها لدى عائلة رحمن.

هذه الرواية تتطلّبُ عقلاً شغوفاُ بالأفكار وملتحماُ بالمعضلات الوجودية الكبرى في العالم، وأعتقدُ أننا سنشهدُ في السنوات القادمة سيلاً مُتعاظماً في هذا النوع الأدبي من الروايات.

بقدر مايختصُّ الأمر بي أرى أنّ رواية (في ضوء مانعرفه) هي أفضلُ رواية قرأتها خلال العقد الماضي، وهي رواية متفرّدة ببنائها السردي وطبيعة موضوعاتها المشتبكة، ولابدّ هنا من التنويه بالقدرة المتميزة لمترجم العمل الدكتور علي عبد الامير صالح، الذي أثبت بشواهد راسخة أنه يختارُ أعمالاً متميزة وذات أصالة يتفق عليها أغلب النقّاد والقارئين ومراجعي الاعمال الروائية في كبريات المواقع والمجلات الادبية، ولاتلهث أنفاسه في مطاردة الروايات الفائزة بجوائز عالمية أو تلك التي حققت مبيعات مليونية فحسب ؛ إذا غالباً ماكانت تلك الأعمال مصدر خيبات كبرى بعد أن كشفت عن خواء ملازم لنفوس كتّابها الذين يحومون في أفلاك تائهة عن مدارات الإبداع الخلاق والقيمة الروائية المنتجة كما شهدناها عند أعاظم مبدعي الفن الروائي.

إنّ روايةً واحدةً قد تصنعُ ماتعجز عنه عشرات ومئات الروايات سواها، وأحسبُ أنّ رواية (في ضوء مانعرفه) شاهدٌ تطبيقي على رواية أفكار رائعة يستزيد منها القارئ خبرة بقدر ماتعظّمُ لديه تقاليد القراءة الرصينة التي تتوفر على نسبة عالية من المتعة العقلية في أفضل تجلياتها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

العمود الثامن: لجنة المرأة تحارب النساء

62 حالة انتحار في ديالى خلال 2024 بسبب "الربا"

أزمة جفاف الأهوار.. الأمم المتحدة تؤكد دعمها و«الموارد» تتحدث عن برامج لاستدامة تدفق المياه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram