 حيدر المحسن

لا يوجد فرق جوهريّ بين البيوت الفقيرة، وتلك التي تعلو. الكوخ كما القلعة، وأصغر شقّة تشبه أكبر فيلا. وهنالك تقسيم آخر للبيوت يؤمن به بورخيس، فهي إما أن تكون مبنيّة في الجحيم، أو في الجنّة. ويختار محمد خضير في مقدمة كتابه الثاني عبارة لروبرت فروست: "البيت هو المكان الذي، حين نذهب إليه، يجب أن نُقبل".

البيت هو الكون مسجوناَ في بيته، حيث السيّد الرّجل يعيش جنباً إلى جنب مع السيّدة المرأة، وسط جمال الحياة الدّاكن، المشعّ، ويصيران مختلفَين حتمًا. وجود أحدهما يلزم وجود الآخر، غيومٌ لا تُرى شكّلها الحبّ صارت هي السّقف، وبقوّة الصّدق الذي في جمال جسد المرأة والرّجل صار الاثنان أداة للإنجاب، أي الخَلق المقدّس.

يقول سعدي يوسف:

أدخلتني في زهرة الرّمّانِ، ثم مضيتِ عنّي/وتركتِني بين التُّويجةِ واللّقاحِ

تركتِني، أعرفتِ أنّي... سائرٌ في زهرةِ الرّمّان/آلافاً من السّنوات

يخبرنا الشّاعر أن اللّقاء بين المرأة والرّجل لا يكتمل ما لم يدخل أحدهما في نبض الآخر، كي يتعرفّا على ما هو مقدّس حولهما، وفيهما، ثملَين بالنّور الذي مبعثه الرّوح كما الجسد. عند ذاك ترسبُ رائحتهما -لا ِعطرهما- كلٌّ لدى الآخر، وتسكن الجسد كلّه.

ما الذي يحدث عندما تتّصل المرأة مع الرّجل بواسطة الجسد؟ يمكن وصف ما يجري بأنه ثملٌ ذاتي يحدث للاثنين، حزمة من الحيوات تتطوّر وتتكامل، بغية احتضان الحياة. قُدّت أجسادنا من أجل حاضرها الذي يستمرّ إلى ما لا نهاية، الحاضر الأبديّ، وفي عيوننا وميض يشي بشهوة من عهود بعيدة. كلاهما، الرّجل والمرأة، يمتلكان أكثر من إحساس واحد مشترك ما إنْ يجتمعا معاً. وليس هذا كلّ شيء، ثمة إرادة حقيقيّة للقطيعة مع العالم، وإعادة اكتشاف الواقع بواسطة أدوات الفنّ، وهذا هو أساس الإبداع الفنّي الذي لا يأتي به إله، ولا إنسان، ولا شيطان. الجسد المقدّس يرفع الشّهوة تاجاً على كلّ قطعة فيه، وهو الذي نطلق عليه اسم الروح -وتعبير «الرّوح» ما هو إلّا وصفٌ أدبيٌّ للجسد- هذا الجزء منّا، المقدّس بذاته، هو الذي يقوم بالفعل الجنسيّ، وينهض كذلك بفعل الإبداع.

تتفتّح حواسّنا الخمس كلّها في ساعة العناق، ويصير الرّجل والمرأة مبدعَين بفضل الحبّ، يتدفّق أحدهما إلى الآخر، ويتلقّف أحدهما الآخر، وما عاد يسترهما شيء. التّخفّف من الثّياب ضروريّ من أجل أن تسهل علينا إجابة سؤال ما معنى الحياة. بتضامن غامض، يشعر الزّوجان أثناء ذلك أنّهما وحيدان وحدةً لم يجرّبها أحدٌ في الكون، وهذا هو الذي يجمعهما، بينما يرسل الخارج، أي خارج المنزل، رسائلَه دون جدوى.

العِشرة الطّويلة بين الرّجل والمرأة تجعلهما يدركان حقيقة أنّهما يتشابهان لا في الطّباع وفي الذّوق فحسب، إنما في الشّكل أيضاً، وهذه الملاحظة تأكّدتُ منها في مجال عملي كطبيب يفحص ويرى الوجوه من قرب. يقال إن للفلاّحين الإسبان وجوهاً تشبه لحاء أشجارهم المعمّرة، وهكذا صار الزّوج شجرة، أم إنّها الزّوجة؟

للشّاعرة الأمريكيّة لويز غليك -نوبل 2020- قصيدة في مجموعتها الشّعريّة “عجلة مشتعلة تمرّ فوقنا” تحمل هذا المعنى:

أفتحُ عينيّ فأجدكَ تتأمّلني

تقول: انظري إليّ،

وتقرّب وجهكَ منّي

كأنّه مرآة!

صار وجه المرأة نفسه وجه الرّجل. إنهما قطبا الوجود، وقد باتا عاريين الآن من الظّلال الباهتة التي تبعدهما عن الطّبيعة. ثم يبدآن ممارسة الجنس بطقس خاصّ بهما، ويختلفان به عن الغير- طقس خاص، بل أقول إنه شَعِيرَة.

ورغم فنائه الحتميّ، يبقى الجسد فاتناً وبهيجاً لأن فيه سحر الدّيمومة. تشبه المرأة صفحة نهر، والرّجل هو الآخر نهر. يا للجمال، نهر يعانق نهر! ويمنح العاشقان كلّ للآخر أعزّ ما عندهما، النّبيذ والعسل. النّبيذُ لاذعٌ، والعسلُ هو الأوّل.

يمكن احتمال جميع الخسارات، واحدة بعد أخرى، ويسقط الثّلج على الرّجل ما إن يفقد امرأته، ويظلّ غباره يتساقط طوال النّهار واللّيل...