متابعة/ المدى
في صحراء كربلاء، جنوبي العراق، وعلى امتداد آلاف الدونمات تنتشر بقايا أسلحة تعود للنظام السابق هددت حياة الناس لقرابة عقدين، بعد أن كانت مخازن حربية لقطعات الجيش العراقي عهد صدام حسين.
تحولت هذه الأرض اليوم إلى مشروع ضخم للزراعة والمياه يسمى "الساقي"، تلك الصحراء ومخلفاتها الحربية هي ليست إلا واحدة من عشرات الأراضي الأخرى التي لا تزال حتى اليوم مصدر خطر يهدد أرواح المدنيين مالم يتم معالجتها.
مقبرة الأسلحة
على امتداد أكثر من عشرة آلاف دونم، وفي أرض صحراوية تبعد 55 كم جنوب غرب محافظة كربلاء جنوب العراق، تفترش الأرض أنواعاً مختلفة من الأسلحة التي خلفها نظام صدام حسين قبل الإطاحة به.
ومنذ ثمانية عشر عاما وحتى اليوم تنتشر في تلك الأرض صواريخ وألغام وأعتدة عسكرية متنوعة، بعد أن تم تفريغها من المخازن إثر حرب عام 2003.
يتحدث أبو علي، 57 عاما، للحرة وهو أحد أبناء المنطقة عن حكاية آلاف القطع العسكرية والألغام والمنتشرة فوق الأرض وتحتها،
تعود حكاية انتشار تلك الأسلحة، كما يقول أبو علي، إلى بداية العام 2003، حين لجأ النظام السابق إلى نقلها من مخازنها المخصصة في المنطقة والتي على شكل الأهراما ، لبعثرتها على مساحات شاسعة من تلك الأرض وفي غرف سرية مدفونة تحت الأرض خوفاً من الاستهداف في حينها عقب اندلاع حرب 2003.
وانتهت الحرب بإزالة النظام السابق دون إزالة مخلفاته الحربية والعسكرية على تلك الأرض وغيرها في عموم العراق.
يروي أبو علي أنه وعائلته "اعتادوا الحياة والمسير بين الصواريخ والقنابل اليدوية التي تنشر هناك لسنوات وسط الخوف من فقدان حياتهم في أي لحظة.
وأوضح أنه "اعتاد" على اكتشاف نوع جديد من المقذوفات الحربية كل يوم، بل أصبح "يمتلك الخبرة" في معرفة أنواع السلاح بأنواعه الثقيلة والمتوسطة والخفيفة منها .
مشروع يبث الأمل
ورغم كل مخاطر الأسلحة التي تملأ أرجاءها، انطلق مشروع زراعي ضخم لاستصلاح تلك الأرض، وتحويلها من مقبرة للمخلفات الحربية الى مساحات خضراء شاسعة، تمد أهالي المنطقة المحيطة بها والمحافظة بالأمل.
وخلق المشروع فرص العمل للسكان المحليين وساعدهم في التخلص من المخلفات الحربية.
المهندس ضياء الصائغ، وهو رئيس قسم المشاريع الهندسية في العتبة العباسية الجهة المشرفة على إنجاز المشروع قال للحرة إن "استصلاح تلك الأرض لم يكن بالسهل، بل عانت الكوادر كثيرا في التعامل مع تلك المخلفات لكنها، وبالتعاون مع منتسبي الهندسة العسكرية في الجيش العراقي، تمكنت من رفع المخلفات وتمشيط أكثر من 1005 دونمات من مساحة الأرض الكلية".
بث الحياة من مخلفات الموت
الصائغ بيّن أن عمليات إزالة المخلفات استغرقت مجهوداً كبيراً لكنها في النهاية، أثمرت ما يستحق العناء موضحاً "بعد إزالة المخلفات تحول الجزء المعالَج من تلك الأرض إلى مشروع ضخم لزراعة أصناف متعددة من التمور والحنطة".
ويضيف "وبالاعتماد على أسلوب السقي بالمرشات الحديثة وحفر الآبار المائية التي تمد المشروع بالماء تماشياً مع أزمة شح المياه في العراق، واستخدام ألواح الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء من أجل سحب المياه من الآبار وسقي الأراضي".
وأكد الصائغ أن المشروع جاء لكي "يكون نموذجاً من أجل تطبيقه في الكثير من المساحات التي تملؤها مخلفات الأسلحة في باقي المحافظات".
وشدد المهندس على أن "مقابر الأسلحة" يمكنها أن تتحول لـ "فردوس" يمد الناس بالأمل ويوفر لهم فرص العمل ويزيل عنهم وعن عوائلهم المخاطر .
محاولات محفوفة بالصعوبات
رغم كل جهود المشروع وثماره إلا أن هناك أكثر من 8 آلاف دونم لا تزال مفروشة بالصواريخ والألغام نتيجة التعامل الصعب معها، وليس باليد حيلة لدى القائمين على المشروع سوى انتظار إزالة المخلفات من قبل المختصين.
وتعمل فرقة من الهندسة العسكرية على تمشيط الأرض منذ شروق الشمس وحتى مغيبها.
مسؤول الفرقة والذي طلب عدم ذكر اسمه للحرة أوضح أن مساحة الأرض الشاسعة والنشر العبثي للمخلفات يعقّد المسألة ويحتاج للدقة في إزالتها.
ويضيف موضحا "تحت تراب هذه الأرض ذخيرة هائلة وكبيرة، نحن نتعامل بمنتهى الدقة ونسير بخطوات حذرة هنا، فبين شبر وآخر نجد ألغام وصواريخ مضادة للدبابات، وذخائر وصواعق وقنابل يدوية، نحن نعمل جهدنا للتعامل بحذر من أجل رفعها وتجميعها في مكان واحد".
وقال المسؤول إن فرقته "ترفع في كل فترة مئات القطع الحربية وتجمعها في مكان غير مأهول، ثم تقوم بعد استحصال الموافقات من الجهات الأمنية العليا بتفجير تلك المخلفات وإنهاء خطرها".
وفي نهاية حديثه أشار إلى أنه يتمنى أن يرى كل تلك الأرض خضراء مثلما حصل لأجزاء منها دون أن يتعرض بسببها المدنيون وفرقته لخطر، مشيرا بحزن إلى أن أحد أعضاء الفريق فقد أطراف يده في عمليات إزالة سابقة للمخلفات في البصرة.
العراق يتصدر عربيا
وبينما كانت قصة أرض الساقي نموذجا ناجحا لمحاولات التخلص من المخلفات الحربية، واستثمار مساحات أراضيها، فإن المخلفات الحربية تعد من أخطر المشاكل التي تواجه باقي محافظات العراق.
وأدت كثرة الحروب التي خاضتها البلاد والمشاكل الأمنية التي عاشتها إلى اتساع رقعة المساحات الجغرافية التي تحتوي على المخلفات الحربية والألغام في مختلف المحافظات العراقية، وبالأخص الجنوبية منها.
وينوه وزير البيئة العراقي، جاسم الفلاحي، إلى أن "العراق يعتبر الأول في مجال التلوث في الألغام والعبوات الناسفة والمخلفات الحربية نتيجة عقود من الحروب وعدم الاستقرار ومواجهة التحديات الإرهابية".
ورجح أن "العراق سيكون خاليا من الألغام والعبوات الناسفة والقذائف الحربية غير المتفجرة بحلول العام 2028" وهو ما يكشف بحسب الوزير أن" معالجة هذه المشكلة المعقدة ما زالت تحتاج لسنوات طوال، خاصة بعد أحداث احتلال تنظيم داعش الإرهابي مناطق واسعة من البلاد بعد العام 2014 وتحريرها من قبضته، وهو ما فاقم من الأزمة بعد أن أقدم التنظيم على تفخيخ مساحات كبيرة وزرعها بالمتفجرات والألغام المختلفة".
امتداد خارطة المخلفات والضحايا
ووفق دائرة شؤون الألغام التابعة لوزارة البيئة العراقية، فإن حجم التلوث الكلي للمخلفات الحربية في العراق يبلغ نحو 6 آلاف كلم مربع، تم تنظيف نصفها تقريبا.
لكن انتشار المخلفات الحربية والألغام على طول البلاد وعرضها، لم يمر دون إزهاق أرواح الأبرياء وسقوط الآلاف منهم على مدى العقود السابقة، التي خاض فيها العراق حروبا وشهد أحداثا ومشاكل أمنية عدة.
ويبين مسؤول المركز الجنوبي لشؤون الألغام في وزارة البيئة، نبراس التميمي، أن "نحو 18 ألف شخص سقطوا بين قتيل وجريح بسبب الألغام والمخلفات الحربية في محافظات جنوب العراق، خلال العقود الثلاثة الأخيرة".
التميمي أوضح كذلك أن وزارتي الدفاع والداخلية، ومنظمات محلية وأجنبية، تبذل جهدا كبيرا لإزالة المخلفات الحربية، لكن حجم التلوث كبير، إذ تبلغ مساحة المناطق الملوثة بالمخلفات الحربية أكثر من مليار متر مربع.
البصرة الأكثر تضرراً
ويبين مسؤول المركز الجنوبي لشؤون الألغام في وزارة البيئة، نبراس التميمي، أن محافظة البصرة الحدودية جنوباً "تعد الأكثر تلوثا بالمخلفات الحربية، وسجلت أكثر من 50 ضحية خلال العام 2020، أغلبهم من الأطفال والنساء والرعاة".
ووضح التميمي أن "حجم التلوث في محافظة البصرة نتيجة المخلفات الحربية بلغ 1258 كلم، مبيناً أن "المحافظة سنوياً تعاني من أضرار بشرية ومادية جراء مخلفات الحروب والألغام"، مؤكدا "التنسيق مع قيادة العمليات بأهمية تكثيف السيطرة الأمنية القريبة من المناطق الخطرة والمناطق الصحراوية ومنع المواطنين من دخولها".
وذكر أن "المركز باشر بوضع خطة طارئة شملت مركز المدينة والأقضية والنواحي بغية الحد من تلك المخلفات، وتضمنت الخطة، مناشدة برنامج الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام بزيادة الدعم البشري والفني لملاكات المسح والإزالة لمواقع الألغام ومخلفات الحروب، فضلا عن إعادة تثبيت العلامات التحذيرية لتحذير المواطنين من مدى خطورة الاقتراب من المناطق الخطرة."
وتابع "كما تضمنت الخطة، دعوة المواطنين بالتبليغ عن أي جسم غريب إن تم العثور عليه والاتصال مباشرة بالأرقام المجانية التي نشرها المركز الإقليمي كي تتم في الحال الاستجابة السريعة من قبل الجهات المختصة برفع تلك الأجسام الغريبة، علاوة على تكليف (المنظمة الدنماركية والمنظمة النرويجية) بإزالة الألغام من قبل دائرة شؤون الألغام لإجراء مسح فني طارئ لمواقع الحوادث كافة ".
وتقول إحصائيات الأمم المتحدة إن" 100 طفل قُتلوا أو أصيبوا في الأشهر التسعة الأولى من عام 2021 جراء انفجار ألغام ومتفجرات من مخلفات الحروب في العراق".
إحراز التقدم ومشوار الإعمار
وتبين دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام في العراق إحراز تقدم كبير لتطهير البلاد من المخلفات الحربية.
مدير البرنامج الأقدم للدائرة للأممية في العراق، بير لودهامر، أعلن خلال المؤتمر الدولي للمانحين للأعمال المتعلقة بالألغام، "إحراز تقدم كبير في موضوع المخلفات الحربية، ولكنه أوضح بأن هناك الكثير من العمل اللازم إنجازه قبل أن يصبح العراق خاليًا من مخاطر الذخائر المتفجرة والألغام.
وأضاف لودهامر، أن "آثار الحرب والصراع مع الذكرى الرابعة للانتصار على داعش، ما زالت حية لا سيما في المناطق المحررة، التي لا تزال ملوثة بالعبوات الفتاكة التي زرعتها عصابات داعش والتي كان هدفها قتل أكبر عدد من الأرواح البريئة وبث الخوف".
وشدد على أنه "لا يمكن المضي قدمًا بإعادة الإعمار إذا كانت هناك مناطق ملوثة بالمتفجرات وملوثات الحرب"، مؤكدًا أن "التوعية بخطر الذخائر المتفجرة تمثل خط الدفاع الأول للعديد من المجتمعات المتضررة".
المصدر : الحرة عراق