أ.د.قاسم حسين صالح
تقترن السلطة في تاريخنا العربي بالاستحواذ على الثروة الذي يفرز بالضرورة قلّة من أغنياء وكثرة من فقراء، جسدتها بغداد زمن هارون الرشيد بتباين حاد بين هاتين الطبقتين، في حياة بذخ وترف ومجون لقلة تمتلك السلطة والثروة والقانون، وكثرة من معدمين وجياع وعاطلين طحنهم الفقر بسبب انشغال الزعماء والحكام بالملذات بتعبير أبي حيان التوحيدي.
من هؤلاء الجياع والمهمّشين، ظهرت جماعة أُطلق عليها (العيّارون)، والعيّار، حسب القاموس المحيط، يعني “الكثير المجيء والذهاب والذكي، الكثير التطواف” الذي يتردد بلا عمل.
وقد شكّل العيارون مع الشطّار واللصوص جماعة معزولة، أدخلهم تهميشهم وعزلتهم في صراع مع مجتمع نبذهم، تطور تدريجيا من التمرّد عليه إلى القيام بثورة ضد السلطة وكبار الأثرياء والحصول على حقوقهم الشرعية بأساليب غير شرعية.
ومع أن المصادر التاريخية وصفتهم بأنهم “غـوغـاء من السفلة والأوباش والحثالة العامية”، فإنهم وصفوا أيضا بأنهم أصحاب قضية سدّت بوجوههم السبل المشروعـة، فلم يجدوا إلا اللصوصية والعيارة وقطع الطريق سبيلا للتعبير عن أنفسهم وقضيتهم، وكانوا في بعض أساليبهم مثل روبن هود، يسرقون المال من الأغنياء ليوزعوه على الفقراء والمحتاجين، ولهذا وصفوا بأنهم “سلطة العدل خارج القانون.”
ومع أن العياريّن يذكروننا بالصعاليك زمن الجاهلية من حيث التشابه السيكولوجي والاجتماعي، إلا أنهم كانوا أكثر شأنا وأشد فعلا، لا سيما زمن الفتنة بين الأخويْن الأمين والمأمون، حيث شكلّوا ظاهرة سياسية ووطنية أيضا.
فحين حاصرت جيوش المأمون بغداد عام 196 هجري، ورمتها بالمنجنيق، وقتلت وهدمت وأحرقت، حصل أن معظم قواد الأمين هربوا ولم يصمد في هذه المعركة إلا عامة بغداد (والأوباش والرعاع،أي العيّارون) حسب الطبري. وهم الذين جعلوا قائد جيوش المأمون، طاهر بن الحسين، يعجز عن دخول بغداد في واحدة من أشرس المعارك بين العرب والعجم، بل استماتوا في الدفاع عن بغداد وظلوا صامدين حتى بعد أن استسلم قائد جيش الأمـين وصاحب شـرطته، مـا يعني أنهم كانوا أكثر حبا لبغداد من سادتها، وأن فقراءها كانوا أكثر تعلّقا بها من أغنيائها، ربما لأن الفقراء إذا أحبوا أحبوا بصدق، والأغنياء إذا أحبوا أحبوا لمصلحة.
والمفارقة أن جند الأمين وجند المأمون شرع كل منهما في تدمير وحرق الجانب الذي اعتصم به خصمه، وكانت النتيجة تدمير بغداد وحرقها، وهي الواقعة التي رثى فيها الشعراء بغداد لأول مرة رثاء مرّا يفيض حسرة على مصيرها، وأن العيّارين أنفسهم رثوها كما ينقل محمد رجب النجار عن الطبري، فيما لم يرْثها من حكامها وأغنيائها أحد.
ثمة حقيقة تخص الطبيعة البشرية هي أن الوصول إلى السلطة يؤدي إلى الاستحواذ على الثروة حتى لو كانت ديمقراطية، وتفرز قلة تعيش برفاهية، وكثرة تعيسة بائسة.
المفارقة الأوجع، أننا حين نقارن حال الأمس الغابر من اللصوص بحال اليوم الحاضر من لصوص سياسيين ووزراء ومسؤولين كبار، نجد أن العيّارين كانوا يتحلون بقيم لا يتحلى بها عدد من الذين تولوا المسؤولية ويدّعون التقوى. فقد كان لهؤلاء العيّارين زعيم اسمه (عثمان الخياط) يضع لهم الأسس والمبادئ والأخلاق التي ينبغي أن يتصف بها اللصوص، منها مقولته “ما سرقت جارا وإن كان عدوا، ولا كريما، ولا كافأت غادرا بغدره».
وأوصى أصحابه قائلا “اضمنوا لي ثلاثا أضمن لكم السلامة، لا تسرقوا الجيران واتّقوا الحرم ولا تكونوا أكثر من شريك مناصف وإن كنتم أولى بما في أيديهم لكذبهم وغشهم وتركهم إخراج الزكاة وجحودهم الودائع».
لاحظوا ما قاله أنـه لم يعد يخون أو يكذب منذ أن صار من اللصوص الفتيان، ذلك أنهم كانوا يسرقون كبار الأثرياء والبخلاء ومن لم يخرج زكاة أو يغش أو يكذب في معاملات الناس، وأن ذلك في رأيهم استرداد لمال الله الذي ينبغي أن يستعيدوه منهم عنوة واغتصابا، وتحقيق العدل خارج القانون.
وأولئك ما كان أحد منهم يتستر على سارق، فيما رئيس حكومتهم السابق تستر عليهم، خوفا “أن ينقلب عاليها سافلها” وصمت رئيسها لولايتين عن تنفيذ وعده بكشف الحيتان.
قارنوا بين قيم هؤلاء اللصوص، وبين قيم لصوص وصفتهم المرجعية الموقرة بأنهم “حيتان”. فالعيّارون كانوا يسرقون الأثرياء، فيما ساسة هذا الزمان يسرقون قوت الناس الذي اؤتمنوا عليه.
وأولئك كانوا يخرجون الزكاة من المال الذي يسرقونه رغم قلته، وهؤلاء لا يزكوه ولا يخمّسوه بمن فيهم معممون وأصحاب لحى.
وأولئك كانوا يوزعون المال المسروق على المحتاجين من أبناء شعبهم، وهؤلاء يسرقون مال شعبهم ويودعونه في الخارج..
أولئك كانوا يستحون ويخجلون إن سرق أحدهم فقيرا، وهؤلاء مسحوا آخر نقطة حياء من على جبينهم، وحولوا الفساد إلى شطارة..فأيهم بربكم اشرف؟!