طالب عبد العزيز
بين الشعرودوافعه والحياة شعراً مسافةٌ لا تحدُّ. ولأنني شهدتُ الحياةَ باحتفالها يوم كانت شعراً، قبل أنْ أقادَ الى الشعر ودوافعه، فقد وقعتُ في المحنة- التي هي من القساوة عليَّ اليوم- بما لم أعد أملك الدوافع لكتابة شيئٍ، له علاقة بالشعرِ والله، ذلك لأنني، مخلوق في قرية كان كلُّ ما فيها من الناس والماء والنخل والخضرة يخطني قصيدة قصيدة، ولأقل: يكتبني شعراً، قبل أنْ أذهب لكتابته.
لكنَّ المحنة تطلُّ علينا بتضاعيفها في كلِّ مفصل من مفاصل الحياة، بعد أن أُستُبدِلت الناسُ، وهلك كلُّ ما هو أخضر، وذهبت الى غير رجعة غابة النخل والفاكهة، وهاجر دونما موعد لعودته كلُّ طائر.. هكذا، وفي بحر من سنوات قليلة، صارت كلُّ القرى والاديرة في ابي الخصيب جزءاً من المدينة، ممدوداً بالاسمنت والاسفلت والمركبات والنفايات بعد أن كان مقطَّعاً بالانهار والظلال والبساتين. فمن أيِّ خراب يأتي الشعر، من أيِّ مخاضة للقبح تأتي القصيدة، وقد صارت الامكنة طاردة لأهلها، وامحت حيطان الطين واحترقت اسيجة السعف والقصب، وتهدمت سقوف الجذوع والمانغروف، حيث لم يعد أحدٌ يسمع نقر درابك في الليل، الليل الذي بات أقصر من أنْ يداهمه فجرٌبلا سنابك خضر.
وسط غابة اليأس هذه، هناك من ما زال يحمل منجله، هناك من ظلَّ يجالد، لكي نكون. عبد اللطيف الكباسي، الذي مازال يتخذ من قرية حمدان مقاماً أبدياً له، واحد من هؤلاء، الذين مازالو يقارعون الخراب بالفسائل، والماء المالح بالتوسل من الجيران، ألّا يجعلوا شبكة صرفهم الصحية في النهر، الذي يسقي منه زروعه، وللتضييق من رقعة قبح الانفس راح يغرس ما شحَّ، وندر، واستحال غرسه، من الفسائل لمن سأله، لا يبتغي مالاً أو وجاهة. هذه اليد التي خلقت لتهب، هي التي تقاتل لكي تدرأ وحش التصحر واليأس والقنوط.
أمس، وبعد أنْ كشفت السماءُ عن زرقتها، اثر ليلة ربيعية ماطرة، هاتفته بحاجة لي عنده، قال: تعال. لم يكتف بحاجتي تلك إنما ظلَّ يزيد بها ويزيد، تسأله عن فسيل فيعدك به، وتستعلمه عن سبيل فيأخذ بيدك اليه، يطالعك وجههُ النَّضرُ المحبُّ فتشعر بأنَّ الخير مازال ممكناً. أخذني الى كل فسيل غرسه هذا العام، فوجدته فرحاً باخضرار سعفاته، والى كل نخلة أثمرت لديه مسهباً بذكر حلاوتها، وطيب طعمها، يضع يده على ما تفتق وتبرعم توّاً فتسمع وجيب النسوغ صاعدة نازلة، حامدة، شاكرةً، وعلى خلاف الناس، زارعين وغارسين، وجدته قليل الشكوى، حتى أنه أخذني الى الترعة التي يسقي منها أرضه، وقد اندفع المدُّ بطيئاً بأول خطواته، حاملاً القناني الفارغة واكياس النايلون وما يلقي جيرانه فيه، غير غاضب من أحد، لكنني، تمكنت من الوقوف على أمل مشوب بيأس في نفسه، بأنْ يكونوا أقل إيذاءٍ له.
لم أحفظ أسماء النادر من الفسائل التي غرسها، لكنه راح يسمّي ما أتى به من مدن وسط وجنوب العراق، فهذه من الناصرية، وتلك من العمارة، وغيرها من بغداد والرمادي وديالى وكربلاء والحلة.. وحين لم يجد من الاسماء ما يكمل دورة الفسائل عنده، قال هذه نخلة هاجر، فقلت متعجباً: لم اسمعْ بهكذا النوع؟ ضحك، ثم همس باذني منشداً: سميتها باسم هاجر حفيدتي. ابو خالد، عبد اللطيف الكباسي كتب القصيدة التي استعصت عليّ.