لطفية الدليمي
يرنُّ جرس الهاتف ليلاً في منزل (س) وهو مستمتع بنوم عميق؛ فيردّ على المكالمة بتثاقل: نعم، تفضل. يخبره المتكلّم (وهو أحد أعضاء لجنة نوبل) بأنه فاز بجائزة نوبل في أحد فروعها الستة. يجيبه (س): شكراً جزيلاً، ثم يعود لمواصلة نومه. هكذا ببساطة.
هذا مشهد قرأتُ أمثاله كثيراً فيما يخصُّ الفائزين بجوائز نوبل (ربما جائزة الأدب وحدها استثناء لأسباب خاصة). لماذا لم يرقص (س)؟ لماذا لم يصرخ فرحا وهو يردد: ها قد فعلتُها أخيراً. ها قد تتوّج حُلمي الملحمي بالفوز العظيم. وحدها توني موريسون رقصت بعد سماعها خبر فوزها بجائزة نوبل، وأظنُّها فعلت ذلك انتصاراً لخلفيتها العرقية لالشيء آخر.
لماذا لم يرقص هؤلاء طرباً ؟ الجواب ببساطة: لأنهم مارأوا في جائزة نوبل تتويجاً لحلمٍ ملحمي ذي مواصفات بطولية عزموا عليه في صغرهم؛ بل هم رأوها اعترافاً عالمياً بإنجازاتهم التي هي في التحليل الاخير عملية تراكمية لسلسلة من الإنجازات الصغيرة. لاأحد في العالم يقرّرُ انه سينالُ جائزة نوبل عندما يكبر. هذا ليس حلماً بل عبءٌ خطير على الروح وهَمٌّ مُقيمٌ في القلب، وأزعم أنهم لو فعلوا هذا ماكانوا سينالون نوبل لاحقاً. التسويغ النفسي واضحٌ: لنتصوّرُ أنّ واحداً منهم فعل هذا؛ فماالذي سيحصل ؟ سيشغله همّ الجائزة والتفكير بها عن متابعة عمله بثبات واسترخاء، وسيفكّرُ باستحقاقات الجائزة أكثر من استحقاقات العمل الذي سيُمنَحُ عنه الجائزة. المسألة هنا شبيهةٌ بمن يظلُّ يعشقُ امرأة من غير خطوات صغيرة تقرّبه من هدفه. هو يريدُ الحصول عليها دفعة واحدة وبعملية شبيهة بإغارة فرقة (كوماندوز) على وكر لإرهابيين.
نحنُ البشر لم نتشكّل وفقاً لقوانين البيولوجيا الارتقائية لنكون كائنات ملحمية تحقق أهدافها كأبطال الملاحم الأسطورية. هذه الملاحم كتبت أصلاً لمقاربة رؤية حلمية غير مختبرة على القدرات البشرية المتاحة، والأدب – في بعض جوانبه – إن هو إلا ملامسة خفيفة لبعض ماتعجز الكائنات البشرية عن اختباره في واقعها المادي. لنُسَمّه واقعاً تعويضياً لو شئنا.
أسبابٌ كثيرة تقف وراء خطورة الرؤية الملحمية، منها مثلاً: ماالعمل لو إنكسر الحلم الملحمي، وهو سينكسر في الغالب لأسباب موضوعية عديدة ؟ سيقودُ الانكسار صاحبه إلى التيهان في دوامة من الضياع المؤلم؛ بينما توفر له الخطوات الصغيرة الهادئة مسالك جانبية ليتجاوز بها المطبّات والانكسارات المتوقّعة. خسارةُ خطوةٍ واحدةٍ لن تقود إلى ضياع كامل؛ فهناك دوماً خيارات متاحة وإمكانيات لم تُختَبَرْ بعدُ، وهناك في طاقتنا مزيدٌ من القدرة طالما أنها لم تُستَنزفْ في حلمٍ ملحمي أوحد.
الملحميون كائنات خطيرة. هُم يرون في أنفسهم قدرة تتعالى على قدرات البشر، ومثابرة تستعصي على سواهم؛ لذا تراهم كائنات معطوبة نفسيا وبخاصة في المجال السياسي. لن يردعهم رادعٌ في حرق آلاف البشر تحقيقاً لما يرونه ملحمتهم الموعودة. يعشقون الشعارات المكتوبة برؤية ملحمية، وعندما يمتحنُ المرء ماحققوه سيكتشف هزال المنجز. لغو كثير وأفعال قليلة.
الحياة ليست طريقاً يمكننا وصفُ تفاصيله منذ البدء وحتى النهاية. هي إكتشاف ومساءلة وتمتع برؤى جديدة؛ فكيف يمكن أن تبقى رؤانا الملحمية التي نختارها في أعمار مبكرة على حالها؟ هذا هو خطر الآيديولوجيا (وهي قرينة كلّ رؤيا ملحمية). الملحميون أناسٌ لايرون جماليات الحياة وتفاصيلها الصغيرة المبثوثة على جانبي طريق ارتقائهم في هذه الحياة. يغلّبون الرؤية الآيديولوجية على الرؤية الجمالية، والايمان المسبق على الدهشة اللحظية، والأهداف المتعالية البعيدة على الاهداف الصغيرة المحسوسة. يظنون أنّ البعيد هو الأخلد والأسمى.
العاملون بخطوات صغيرة، والساعون لاكتشاف مكامن الدهشة في هذه الحياة من غير خارطة عمل تفصيلية مسبقة هُم من سيحققون الكثير، وقد تفاجئهم مكالمة صغيرة تعلن فوزهم ؛ أما الملحميون، وَرَثَةُ كتب الأساطير،فسيبقون يتطلعون لتلك المكالمة، وسيخسرون متعةالعيش بانتظار هواتف لن ترن !