TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: خطوات صغيرة أفضلُ من ملحمة موعودة

قناديل: خطوات صغيرة أفضلُ من ملحمة موعودة

نشر في: 5 مارس, 2022: 11:33 م

 لطفية الدليمي

يرنُّ جرس الهاتف ليلاً في منزل (س) وهو مستمتع بنوم عميق؛ فيردّ على المكالمة بتثاقل: نعم، تفضل. يخبره المتكلّم (وهو أحد أعضاء لجنة نوبل) بأنه فاز بجائزة نوبل في أحد فروعها الستة. يجيبه (س): شكراً جزيلاً، ثم يعود لمواصلة نومه. هكذا ببساطة.

هذا مشهد قرأتُ أمثاله كثيراً فيما يخصُّ الفائزين بجوائز نوبل (ربما جائزة الأدب وحدها استثناء لأسباب خاصة). لماذا لم يرقص (س)؟ لماذا لم يصرخ فرحا وهو يردد: ها قد فعلتُها أخيراً. ها قد تتوّج حُلمي الملحمي بالفوز العظيم. وحدها توني موريسون رقصت بعد سماعها خبر فوزها بجائزة نوبل، وأظنُّها فعلت ذلك انتصاراً لخلفيتها العرقية لالشيء آخر.

لماذا لم يرقص هؤلاء طرباً ؟ الجواب ببساطة: لأنهم مارأوا في جائزة نوبل تتويجاً لحلمٍ ملحمي ذي مواصفات بطولية عزموا عليه في صغرهم؛ بل هم رأوها اعترافاً عالمياً بإنجازاتهم التي هي في التحليل الاخير عملية تراكمية لسلسلة من الإنجازات الصغيرة. لاأحد في العالم يقرّرُ انه سينالُ جائزة نوبل عندما يكبر. هذا ليس حلماً بل عبءٌ خطير على الروح وهَمٌّ مُقيمٌ في القلب، وأزعم أنهم لو فعلوا هذا ماكانوا سينالون نوبل لاحقاً. التسويغ النفسي واضحٌ: لنتصوّرُ أنّ واحداً منهم فعل هذا؛ فماالذي سيحصل ؟ سيشغله همّ الجائزة والتفكير بها عن متابعة عمله بثبات واسترخاء، وسيفكّرُ باستحقاقات الجائزة أكثر من استحقاقات العمل الذي سيُمنَحُ عنه الجائزة. المسألة هنا شبيهةٌ بمن يظلُّ يعشقُ امرأة من غير خطوات صغيرة تقرّبه من هدفه. هو يريدُ الحصول عليها دفعة واحدة وبعملية شبيهة بإغارة فرقة (كوماندوز) على وكر لإرهابيين.

نحنُ البشر لم نتشكّل وفقاً لقوانين البيولوجيا الارتقائية لنكون كائنات ملحمية تحقق أهدافها كأبطال الملاحم الأسطورية. هذه الملاحم كتبت أصلاً لمقاربة رؤية حلمية غير مختبرة على القدرات البشرية المتاحة، والأدب – في بعض جوانبه – إن هو إلا ملامسة خفيفة لبعض ماتعجز الكائنات البشرية عن اختباره في واقعها المادي. لنُسَمّه واقعاً تعويضياً لو شئنا.

أسبابٌ كثيرة تقف وراء خطورة الرؤية الملحمية، منها مثلاً: ماالعمل لو إنكسر الحلم الملحمي، وهو سينكسر في الغالب لأسباب موضوعية عديدة ؟ سيقودُ الانكسار صاحبه إلى التيهان في دوامة من الضياع المؤلم؛ بينما توفر له الخطوات الصغيرة الهادئة مسالك جانبية ليتجاوز بها المطبّات والانكسارات المتوقّعة. خسارةُ خطوةٍ واحدةٍ لن تقود إلى ضياع كامل؛ فهناك دوماً خيارات متاحة وإمكانيات لم تُختَبَرْ بعدُ، وهناك في طاقتنا مزيدٌ من القدرة طالما أنها لم تُستَنزفْ في حلمٍ ملحمي أوحد.

الملحميون كائنات خطيرة. هُم يرون في أنفسهم قدرة تتعالى على قدرات البشر، ومثابرة تستعصي على سواهم؛ لذا تراهم كائنات معطوبة نفسيا وبخاصة في المجال السياسي. لن يردعهم رادعٌ في حرق آلاف البشر تحقيقاً لما يرونه ملحمتهم الموعودة. يعشقون الشعارات المكتوبة برؤية ملحمية، وعندما يمتحنُ المرء ماحققوه سيكتشف هزال المنجز. لغو كثير وأفعال قليلة.

الحياة ليست طريقاً يمكننا وصفُ تفاصيله منذ البدء وحتى النهاية. هي إكتشاف ومساءلة وتمتع برؤى جديدة؛ فكيف يمكن أن تبقى رؤانا الملحمية التي نختارها في أعمار مبكرة على حالها؟ هذا هو خطر الآيديولوجيا (وهي قرينة كلّ رؤيا ملحمية). الملحميون أناسٌ لايرون جماليات الحياة وتفاصيلها الصغيرة المبثوثة على جانبي طريق ارتقائهم في هذه الحياة. يغلّبون الرؤية الآيديولوجية على الرؤية الجمالية، والايمان المسبق على الدهشة اللحظية، والأهداف المتعالية البعيدة على الاهداف الصغيرة المحسوسة. يظنون أنّ البعيد هو الأخلد والأسمى.

العاملون بخطوات صغيرة، والساعون لاكتشاف مكامن الدهشة في هذه الحياة من غير خارطة عمل تفصيلية مسبقة هُم من سيحققون الكثير، وقد تفاجئهم مكالمة صغيرة تعلن فوزهم ؛ أما الملحميون، وَرَثَةُ كتب الأساطير،فسيبقون يتطلعون لتلك المكالمة، وسيخسرون متعةالعيش بانتظار هواتف لن ترن !

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram