TOP

جريدة المدى > عام > المؤلف المختفي في رواية (حانة الست) لـ محمد بركة

المؤلف المختفي في رواية (حانة الست) لـ محمد بركة

نشر في: 6 مارس, 2022: 10:33 م

د. نادية هناوي

يُعنى علم السرد ما بعد الكلاسيكي بالعلاقة الإدراكية ما بين العقل والسرد، من منطلق أن كل جانب من جوانب حياتنا ينتظم على أساس معرفتنا بالعالم الحقيقي،

وما ينتج عن هذه المعرفة من عمليات هي بحسب «»ديفيد هيرمان»» تدعم فهمنا للسرد وتجعل كل القصص واقعة ضمن سياق اتصالي يماثل الأوضاع السردية الواقعية.

وتوظف في هذا السبيل مفاهيم كثيرة، منها مفهوم السرد غير الطبيعي ـــ وأفضِّل تسميته بالسرد غير الواقعي ـــ وفيه نجد عدداً من الفرضيات التي بها تسوّغ استحالة السرد ولا معقوليته لتغدو مقبولة ومنطقية، منها فرضية القارئ وقدرته على إدراك واقعية هذا السرد، ومنها الأفعال وطبيعة الشخصيات ومنها سيناريوهات العوالم الممكنة وأشكال العقول غير الطبيعية المتنوعة وغيرها.

وعلى الرغم من كل هذه الفرضيات، فإنّ هناك تمظهرات جديدة وآفاقاً رحبة من الممكن أن يتبدى بها السرد غير الواقعي، ومنها السيرة الذاتية التي فيها صاحب السيرة كيان غير حي أو غير آدمي، فهل نعدُّ المؤلف في هذه الحالة واقفاً خارج السيرة لتكون العلاقة مخصوصة بالداخل السردي كـ(سارد ومسرود ومسرود له) ؟ وماذا عن القارئ ـ الذي هو كيان خارج سردي ويمتلك فاعلية الإدراك لما هو حقيقي ـ هل يتغاضى عن وجود المؤلف في هذا النوع من السيرة الذاتية نافيا أهمية دوره في السرد؟

لا خلاف أنّ المؤلف عنصر أساس في هذا النوع من السرد، وأن التطابق بينه وبين كل من السارد والشخصية أمر مهم كي لا يتسرب الشك إلى القارئ وهو يقرأ سيرة ليست مكتوبة من طرف الشخص المعني بها.

ومن الروايات العربية التي نلمس فيها ما تقدم رواية(حانة الست، أم كلثوم تروي قصتها المحجوبة) للكاتب المصري محمد بركة والصادرة عن دار المثقف 2021 وفيها وُظفت شخصية كوكب الشرق أم كلثوم كمؤلفة وساردة لقصة حياتها بنفسها بعد أن خذلها المؤلف ــــ وذلك في المستهل الميتاسردي الذي يسبق فصول الرواية ــــ ولم يقبل طلبها في أن ينوب عنها ويكون (يديها) التي تكتب سيرتها قائلا:(عدتِ مرة أخرى إلى ممارسة ديكتاتوريتك.. صرختُ في وجهه..طبعا أنا الديكتاتورة الأولى والأخيرة في قوم تجمعهم الطبلة وتفرقهم العصا وإلا كيف تظن أنني أصبحت أم كلثوم)الرواية، ص10

وبتنحي المؤلف عن القيام بدوره تقرر هي البدء برواية سيرتها غير الواقعية مبتدئة بالقول: (لي عنق غليظ أكثر غلظة مما تظنون سمرة بشرتي تفاجئ كثيرين من جمهوري حين يطالعون صوري القديمة بعد معالجتها بالألوان. صوتي يقع في المنطقة الوسطى بين الذكورة والأنوثة؟) الرواية، ص5. وما رفض المؤلف النيابة عنها سوى عتبة تمهيدية لقمع ذكوري ستواجهه أم كلثوم وهي تسرد سيرتها بدءاً من استذكار طفولتها ـ التي شغلت ما يقارب ثلاثة أرباع الرواية ـ معبرة عما عانته خلالها من تمييز جنسي(تعلمت أن الأنوثة عار فعشت أجمل سنوات العمر متنكرة في عقال بدوي ومعطف ازرق وحزام يشد البطن حتى أبدو للجميع رجلا من ظهر رجل) الرواية، ص6، مرورا بمراحل حياتها الأخرى كلها، مصرِّة فيها على كسب رهانها مع الذكورة، أولا في رفضها أن تكون مومياء ملكية تقبع في متحف، وثانيا في مجيئها إلى الحياة بوصفها أم كلثوم الفعلية والمؤلفة الحقيقية التي ستكشف أسرار حياتها الخاصة، وثالثا في دفاعها عن بنات جنسها(دور كل أم أن تعد ابنتها للحياة تهيئها لحمل شعلة العبودية المقدسة.. لا بد لكل أنثى من ذكر تعبده توقد له الشموع) الرواية،ص13 ـ14.

وإذا كان أمر الشروع بكتابة السيرة الذاتية غير منطقي ولا معقول؛ فإن موقعها كمؤلفة يعني أن ما تسرده من أسرارٍ عاشتها وخفايا عاصرتها هو واقعي بكل ما في ذلك السرد من اعترافات وإثباتات، قد تحسب لها حيناً من قبيل ما مرت به من فقر وحرمان واستغلال (صرتُ رسميا الدجاجة التي تبيض ذهبا لأبي) الرواية، ص56 أو تبرعها بجائزة ثمينة كانت قد منحت لها متنازلة عنها لملحن كان قد اشتكاها في المحاكم ذات يوم. أو تصحيحها لمؤرخي حياتها الفنية(يظن المختصون في الشأن الكلثومي أن زيارتي الأولى لبيروت كانت عام 1931 معذورون فقد بقيت زياراتي التي سبقت هذا التاريخ طي الكتمان 1927) الرواية، ص181

وقد تحسب تلك الاعترافات عليها كاعترافها بحبها للمال والشهرة اللذين بسببهما تزوجت صورياً عدة مرات وأولها كان من الشيخ إبراهيم كي تحصل على وثيقة سفر إلى العراق(البلد الذي كانت المرأة فيه ربة حامية وملكة راعية..لا بد أن تكون متزوجة وبحوزتها إذن مكتوب من حضرة الزوج بالموافقة على سفرها. كان يمكننا أن نرفض.. لكن المبلغ المعروض من المتعهد الفني لم يكن يقاوم) الرواية، ص185. أو بحثها عن التقرب من الأسر الارستقراطية(حلاوة صوتي الفائقة لم تفتح لي الأبواب المغلقة فحسب بل جعلتني لغزا يسعى الجميع لحله) الرواية، ص71 أو ما حكته عن علاقتها بالمطربة التي سمتها القطة الشامية وموقفها السلبي منها(لو كانت حياتي فردوسا فالقطة الشامية هي الشرير الذي وسوس لي فخسرت الخلود وهبطت إلى ارض الفناء) الرواية، ص223 أو اعتدادها المفرط بذاتها في مقابل تنكرها لمسائل تتعلق بالوطنية والمواطنة كقولها:(يا عزيز عيني والسلطة خدت ولدي، الأغنية الأعظم التي لن أغنيها أبدا..النشيد الوطني الذي لن أجرؤ على مجرد الدندنة به أنا سيدة مطربات الشرق لا يصح أن ابكي على الأطلال..السلطة أي سلطة لا تحب الميلودراما ولا تتوقع مني سوى أن اصب لها كؤوس الطلا ولن اخذلها أبدا) الرواية،ص32.

ولأن الغناء هو أساس حياتها، قامت بتوزيع فصول سيرتها في الرواية بحسب أغانيها، فكل مرحلة تمثلها أغنية معينة، وأهمية المرحلة تتحدد بأهمية تلك الأغنية فمثلا أغنية(أفديه إن حفظ الهوى..) تحكي قصة حبها للشيخ أبي العلا، أو أغنية(يا ليلة العيد آنستينا) وفيها ولوجت عتبة الشهرة و(قولي ولا تخشاش ملام) التي استذكرت فيها التنافس الحامي مع أخريات مغنيات وغير مغنيات معتبرة(آخر أغنية محترمة قدمتُها هي الإطلال وما بعدها لا يليق باسمي) الرواية، ص285.

ولكن أين هو المؤلف هل خرج فعلا من الرواية منذ المستهل ؟ وإذا افترضنا أنه تقمص دور الساردة وصار يتحدث بلسان صاحبة السيرة؛ فكيف نسوغ موقفه الاستهلالي الرافض أن يكون مؤلفاً لسيرتها الذاتية؟ وقبل ذلك نتساءل كيف يمكن للساردة أن تصف درامياً نفسها وهي ميتة(رأيت تلالا بعيدة من خضرة داكنة..ملابس بيضاء زاهية لأناس يمرحون على شاطئ بحيرة..انفصلت عن جسدي تماما أرقب بتعاطف حيرة الأطباء وذعر الممرضات..ثم انطلقت سيمفونية البكاء والنهنهة رأيت جسدي مسجيا شكرا لمن تذكر أن يغلق عيني الجاحظتين برفق. التجاعيد تملأ وجهي لكن إشراقا خفيا أطل من بينها) الرواية، ص290.

لا شك في أن الإيهام الواقعي بالتطابق هو مراد السرد الواقعي، ولكنه ليس كذلك في السرد غير الواقعي، لأن السارد ليس شخصاً حياً يحكي مستعيداً ماضيه من خلال حاضر هو فيه حي يرزق، فيكون بمقدوره أن يحكي سيرته بضمير المتكلم كمؤلف يقدر أن يتذكر ويعترف ويكشف وينتقد، وإنما السارد هنا ميت والأنا التي تتحدث هي أنا مؤلف ينبغي أن يكون هو الشخصية أيضا. وهذا غير معقول واقعياً لكنه ممكن سردياً بمنطقية الاحتمال الأرسطي في أن تكون الكتابة السيرية قد تمت من لدن أحد هو غير المؤلف ـــ الذي كان قد تنصل من أمر التطابق /التلبس في مستهل الرواية.ــــ وسنسميه المؤلف الغامض أو المختفي.

وبافتراض وجوده يكون فعل الإيهام الذي فنَّده إدراكنا العقلي قد تحول إلى فعل تخييل، فيه يحتمل الوقوع والتحقق كما يحتمل اللاوقوع واللاتحقق. وبهذا يستعيد السرد واقعيته ويغدو قيام الساردة الميتة بدورها في التكلم بضمير الأنا ممكناً كمؤلفة هي شخصية يختفي وراءها مؤلف أتقن نسج الحبكة السردية مشركاً القارئ في العملية السردية من خلال فراغات، يتوجب على القارئ أن يقوم بملئها. وعندها يغدو فهمه الإدراكي محققاً له الاقتناع بأن ما جرى من عودة من الموت أمر ممكن كواقع تخييلي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram