عبدالمنعم الأعسم
هذه الزاوية "جملة مفيدة" أعود بها من رحلة شاقة، لعقدين من السنين، في ملاحقة اشارات وتحولات وحماقات السياسة، وهذه المرة الى الزميلة صحيفة (المدى)، ساعيا قدر ما تبقى من حيلٍ وصبرٍ ان اتشبه بدلالات صناعة الكتابة، آخذاً بمنظور الجاحظ في ان "كل صناعة تصوّر صاحبَها على شاكلتها" ولا خير (طبعا) في شيء لا يشبه اهله.
هِجرة الكتابة طوعاً عن احباط وشعورٍ بلا جدوى القول في سوق رخصت فيه الصنعة، او ان هِجرَتها عن ضغطٍ او تهديدٍ او لتحاشي كواتم الصوت، لا تعني شيئا لمسيرة الاحداث التي غالبا ما ترهق صناع الافكار، وبخاصة اذا ما كانوا من جنس الحالمين، وقد تدفع بعضهم، الاشد حساسية، الى الانتحار، فعندما حُرمت فيرجينيا وولف من الكتابة واجبرت على النزل في مصحة للامراض العقلية لم تجد بدّاً من الانتحار.
الكتابة في السياسة تعتمد المراهنات بوصفها قطع غيار رحلة الكاتب للوصول الى الحقيققة وإذْ راهن صاحب هذه الزاوية كثيراً على حكمةِ "لا يصح إلّا الصحيح" التي زمّ عليها بنواجذه، فقد انتصر الغلط في اكثر من معركة سياسية ينغمر فيها، ولا مبالغة، والمشكلة ان بعض رهاناته وُضعت موضع المقامرة، والرهان مقامرة في بعض القواميس وفي بعض الاحداث حيث وصلت مقاطعة كورنويل البريطانية الى مالكيها الحاليين عن طريق منافسة على طاولة قمار.
لماذا نكتب في السياسة بعد كل الاحباطات؟ وكما ترون فان السؤال اشكالي، وله ما يبرره، فمن جهة دخلت هذه الكتابة في متطلبات الانكفاء الى الماضي، ومن جهة ثانية اصبحت ضرورية لتزييت ماكنة الصراع لكسب المستقبل.
"جملة مفيدة" ولدت على الورق.. نعم، على الورق.. في صحيفة او كتاب. الكاتب البريطاني "سومرست موم" تحدث في كتابه "الخلاصة"عن تكاليف الكتابة في زمنٍ نحسٍ إذ اصبحت معنى للتضحية من اجل قيم الحياة، وسجّل القول "لقد وجدت نفسي على صفحات الورق، فمن يستطيع ان يرفعني عنها".
"جملة مفيدة" تحاول ما حاوله العباس بن فرناس ليطير فطار غيره.. ولو بعد حين.
استدراك:
"كل شيء يمكن أن تتخيله هو حقيقي بالنسبة لك"
بيكاسو