د. نادية هناوي

من العلوم التي أضافت إلى النظرية السردية جديدا علم السرد غير الطبيعي ويهتم بدراسة العوالم المستحيلة التي فيها تتضارب الأحداث غير المعقولة والسراد غير الطبيعيين والشخصيات غير العاقلة.

ومن الباحثين الذين عنوا بهذا العلم الصيني بيو شانغ Biwu Shang موجها اهتمامه صوب تطوير نظرية في السرد المقارن تناظر النظرية السردية الغربية. والدراسة المقارنة للسرد هي منهجية نظرية عامة، بها يمكن الكشف عن خصوصيات السرد المهملة ومراجعة الأدوات والأنظمة المفاهيمية بشكل أكثر شمولاً وتفسيرًا وبالشكل الذي يسمح بتسليط الأضواء على الجوانب المهمشة والطرفية المتعلقة بالسرد والتاريخ والثقافة.

ولا يرى شانغ في اعتماد السرد المقارن ما يمنع من تطبيق أدوات السرد الغربية في تحليل القصص والروايات الصينية فهي تثري بدورها نظريات السرد الغربية من خلال تقديم حالات اختبار جديدة.

واستند شانغ في تأكيد أهمية الدراسة المقارنة للسرد إلى رولان بارت وكتابه(مقدمة إلى التحليل البنيوي للسرد) الذي شكّل منعطفا مهما في النظرية السردية وفيه أكد بارت أن السرد موجود في كل مكان وفي كل مجتمع فهو بدأ مع تاريخ البشرية، فأنه ببساطة هو الحياة تماما.

وتساءل شانغ كيف يمكن إعادة صياغة مفهوم نظرية السرد؟ وهل لمثل هذا الإطار العابر للحدود الذي تمت صياغته حديثًا أن يكون مشروعاً مستقبلياً لتحديد المبادئ أو المكونات لعالمية السرد الفني يمكن له أن يتجاوز الاختلافات الثقافية الواسعة أو يدعمها؟ وما التحولات النموذجية التي حصلت في صناعة السرد وأكدت ضرورة تحوله المقارن؟

وخصص بيو شانغ للسرد غير الطبيعي مكانا مهما في دراسته المقارنة محللا قصصا وروايات صينية وأجنبية كمحاولة للتعريف بالقصص الصينية بين الأوساط الأكاديمية الغربية من قبيل أعمال الصيني «شيلدون هسياو بينغ لو» و”واي إتش زاو”

وإذا كان الهدف من وراء اقتراح بيو شانغ للسرد المقارن هو تدشين علم سرد صيني بشكل أساس، فلأن في الروايات الصينية تقنيات وأنظمة خاصة تتعلق بالبنية والزمان ووجهة النظر والتصوير واللغة والموضوعات والرموز الثقافية والتأليف وسيولة العرض والمعرفة المطلقة واختيار الصور وتركيبها والتعليق عليها والذي يعد واحدًا من أكثر أنواع السرد الصيني تميزًا ـ على حد قوله ـ واصفا علم السرد الصيني بأنه نظام مفاهيمي في دراسة لغة السرد الصينية من خلال ثلاثة أسئلة مترابطة هي: متى بدأ هذا السرد؟ كيف تطور؟ وكيف تم تمثله في الروايات الصينية؟

مما أكد شانغ أنه إذا كان ظهور السرد الصيني وتطوره قديما، وهو يعود إلى الأساطير على شاكلة دوران الشمس من الشرق إلى الغرب التي فيها تتجلى فكرة الدوران(الشمس تسطع في العالم كل يوم وبسطوعها يقهر الظلام) التي كان الصينيون القدماء يؤمنون بها إيمانا راسخا، فإن لعلم السرد الصيني غير الطبيعي تاريخا طويلا يرجع إلى العام 286 قبل الميلاد مما يمكن العثور فيه على حكايات الأشباح والجثث.

وما يبحث عنه علم السرد الصيني هو الكشف عن التقاليد والأعراف السردية والقيم المجتمعية التي تجسدها ​​الشخصيات أولا وثانيا التحولات النموذجية عبر مراحل مختلفة وثالثا انتقال هذه التقاليد وتأثيراتها العابرة للتاريخ وللثقافات.

وبإمعان النظر في السرديات الصينية سينكشف ما للسرد الصيني غير الطبيعي من مكانة مركزية تجعله نظيرا للسرد الغربي غير الطبيعي الذي يشكل أحد الموضوعات الساخنة في الدراسات النقدية في السنوات الأخيرة. ومن تلك الدراسات التي أحال عليها شانغ دراسات إيفرسن ونيلسن وريتشاردسون وجان البر.

وأتفق شانغ مع ألبر في تعريف السرد غير الطبيعي بأنه سيناريوهات جسدية ومنطقية وإنسانية لأحداث مستحيلة في منظور القوانين المعروفة والمقبولة التي تحكم العالم المادي.

ومن القصاصين غير الصينيين الذين وظفوا هذا النوع من السرد وقام بيو شانغ بدراسة نتاجهم القاص العراقي «حسن بلاسم» الذي خصص له شانغ فصلا كاملا من كتابه آنف الذكر محللا مجموعاته القصصية المترجمة إلى اللغة الانجليزية، مطبقا عليها منهجيته المقارنة على وفق مفاهيم علم السرد غير الطبيعي.

بيد أن هناك قصتين لم يشملهما شانغ بالدراسة الاولى هي قصة (جريدة عسكرية) من مجموعة (جنون ساحة الحرية)2015 وهي مهداة إلى قتلى الحرب العراقية الإيرانية 1980ـ 1988 ربما لأن شانغ اكتفى بالتمثيل بها على المجموعة كلها أو لأنها لم تكن ضمن نسخة المجموعة المترجمة. وتعد قصة(جريدة عسكرية) من السرد غير الطبيعي، لأن فيها شخصيتين إحداهما حقيقية يمثلها جندي يعمل محررا لصفحة ثقافية في جريدة عسكرية والشخصية الأخرى شبحية هي روح جندي كان قد قتل في إحدى المعارك.

ولأن الجندي كان يهوى كتابة الروايات لذلك تقوم روحه بإرسال رواية مخطوطة في شكل رسالة عليها اسم الجندي الميت وتصل إلى بريد الجريدة كل شهر. ولأن الاسم يشير إلى أن صاحبه لا وجود له، يقوم المحرر بالاستيلاء على الروايات ناسبا إياها إلى نفسه وينال بسبب ذلك جوائز ويحقق شهرة عالمية.

والقصة مبنية بطريقة دائرية فتبدأ من النهاية حيث المحرر جثة ميتة يخرجها كاتب القصة ليستجوبها ويقاضيها حول حقيقة سرقتها منجز الجندي الميت(سنخرج الميت عاريا إلى الحديقة العامة نجلسه على المصطبة..سنحاول تثبيت رأسه..سنتوسل إليه أن يعيد... شكرا عزيزي الكاتب على إبعاد الذبابة من على أنفي وإتاحة هذه الفرصة المشمسة. اختلف معك فقط في محاولة تخويف القراء مني وأنت تصفني بالوغد دعهم يحكمون بأنفسهم أرجوك ولا تتحول أنت الآخر إلى كلب مسعور هنيئا لك بالحياة فقط لا تتدخل في جوهر الحيوان الذي أنت من فصيلته) ص21

ويدور حوار مستحيل بين الكاتب الذي هو القاضي وبين المحرر المتهم الذي يسترجع أحداث عشرة أعوام مدافعا عن نفسه فقد كان يؤدي دورا مهما حين عمل في جريدة عسكرية واشرف على صفحة ثقافية تهتم بقصص وقصائد الحرب، وكانت الصفحة قبله متهالكة وبائسة(أنا العبقري الوحيد الذي تمكن من إحياء الصفحة الثقافية بمخيلة قتالية لا تكل ولا تمل) ص21.

ويمحور الجندي دفاعه عن نفسه بذكر تضحياته ومثابرته وطموحه ولذلك يستنكف أن يعترف بالجرم ويعلن بكل ثقة أنه غير نادم ولا خائف. ولماذا يندم ويخاف وهو نفسه الآن جثة يتم استجوابها عن حياة سابقة لا يعرفها سوى السارد العليم الذي يقوم بدوره باسترجاع أحداث لم يذكرها هذا المحرر الذي وصلته من نفس الجندي الميت وعلى عنوان الجريدة عشرون رواية أخرى وبشكل متتال. ثم تفاقم الامر وبدلا من كونها كانت تأتي واحدة واحدة صارت تأتي في اليوم الواحد بالعشرات فتدهورت صحته وطلق زوجته. ولم يجد حلا سوى أن يقصد جثة الجندي الميت ويحرقها. ثم اشترى مزرعة بعيدة واحرق فيها الروايات كلها قبل أن يقرر إنهاء حياته منتحرا.. وتختتم القصة بمفارقة بها تنفرج عقدة القصة فحين تخاطب الجثة الكاتب ستنكشف حقيقة صادمة هي أن الكاتب المستجوِب هو أيضا محرر ثقافي وقاص سارق(والآن قبل إعادتي لمشرحة الموتى أعرف أنك قدير وحكيم وعليم ومتكبر، هل كنت أيضا تعمل في جريدة عسكرية؟ لماذا لديك محرقة وبشر وحكايات؟) ص25